البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرّد أسلاف اليهود على موسى ، وعصيانهم إياهم ، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لما هو العظيم منها ، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى .

ونعمة الله يراد بها الجنس ، والمعنى : واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوّتك .

وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم ، وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة .

وعدّد عليهم من نعمه ثلاثاً : الأولى : جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف ، إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه ، والمبلغون عن الله شرائعه .

قيل : لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء .

وقال ابن السائب ومقاتل : الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وكانوا من خيار قومه .

وقيل : هم الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره ، وعلى هذا القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل ، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم ، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم .

الثانية : جعلهم ملوكاً ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً إذ جعل منهم ملوكاً ، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء ، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا .

وقال السدي وغيره : وجعلكم أحراراً تملكون ولا تملكون ، إذ كنتم خدماً للقبط فأنقذكم منهم ، فسمي استنقاذكم ملكاً .

وقال قوم : جعلهم ملوكاً بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم ، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا ، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم .

وقال قتادة : ملوكاً لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء .

وقال ابن عطية وقتادة : وإنما قال وجعلكم ملوكاً ، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل .

وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضاً مدة تناسلوا وكثروا انتهى .

وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل ، وهو ظاهر قوله : وجعلكم ملوكاً .

وقال عبد الله بن عمر ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة : من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك .

وقيل : من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك .

وقيل : من له زوجة وخادم ، وروي هذا عن ابن عباس .

وقال عكرمة : من ملك عندهم خادماً وبيتاً دعي عندهم ملكاً .

وقيل : من له منزل واسع فيه ماء جار .

وقيل : من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق .

وقيل : ملوك لقناعتهم ، وهو ملك خفي .

ولهذا جاء في الحديث : « القناعة كنز لا ينفد » .

وقيل : لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون .

وقيل : ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره .

الثالثة : إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد : بالمن والسلوى ، والحجر ، والغمام .

وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم .

وقيل : كثرة الأنبياء .

وقال ابن جرير : ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا ، خصوا بفلق البحر لهم ، وإنزال المن والسلوى ، وإخراج المياه العذبة من الحجر ، ومد الغمام فوقهم .

ولم تجمع النبوة والملك لقومٍ كما جمعا لهم ، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى .

وأن المراد كثرة الأنبياء ، أو خصوصات مجموع آيات موسى .

فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك : قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة ، وحن له الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعد العود سيفاً ، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى .

وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم ، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي جأشهم ، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله ، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه ، ويجعل له السلطنة والقهر عليه .

والخطاب في قوله : وآتاكم ، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه ، وأنه من كلام موسى لهم ، وبه قال الجمهور .

وقال أبو مالك ، وابن جبير : هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وانتهى الكلام عند قوله : وجعلكم ملوكاً ، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله ، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة الظاهرة جبراً لقلوبهم ، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم ، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم ، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره .

وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه ، وهو معطوف على ما قبله ، ولا يلزم ما قاله ، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب ، لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولاً ، وإنما يناسب من وجه إليه ثانياً ، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره .

وقرأ ابن محيصن : ياقُوم بضم الميم ، وكذا حيث وقع في القرآن ، وروى ذلك عن ابن كثير .

وهذا الضم هو على معنى الإضافة ، كقراءة من قرأ : قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم .