اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

الواو في قوله : " وَإذْ قَالَ " واو عَطْفٍ ، وهو مُتَّصِلٌ بقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } [ المائدة : 12 ] ، كأنَّهُ قيل : أخَذَ عَليْهِم الميثاق ، وذكر مُوسى نِعَم الله وأمَرَهُم بمحارَبةِ الجَبَّارين ، فَخَالَفُوا المِيثَاقَ ، وخالَفُوا في مُحَارَبَة الجَبَّارين .

واعلم : أنَّه تعالى مَنَّ عليهم بثلاثَةِ أمُورٍ{[11317]} :

أوَّلها : جعل فيهم أنْبيَاء ؛ لأنَّهُ ما بَعَثَ في أمَّة ما بَعَث في بَنِي إسْرائيل من الأنْبِيَاء ، فمنهم السَّبْعُون الذين اخْتَارَهُم مُوسَى من قَوْمِه فانْطَلَقُوا مَعَهُ إلى الجَبَلِ ، وكانوا من أوْلاَدِ يَعْقُوبَ بن إسْحَاق بن إبراهيم ، وهؤلاءِ الثَّلاثةُ من أكَابِر الأنْبِياء بالاتِّفَاق ، وأوْلاَدُ يَعْقُوب - أيضاً - كانوا أنْبِيَاء على قَوْل الأكْثَرِين{[11318]} ، والله تعالى أعلم مُوسَى أنَّهُ لا يَبْعَثُ من الأنْبِيَاء إلا من وَلَدِ يَعْقُوب ومن وَلَدِ إسْمَاعيل ، [ فهذا الشَّرَفُ ]{[11319]} حَصَلَ بمن مَضَى من الأنْبِيَاء ، وبالَّذِين كانوا حَاضِرِين مع مُوسَى ، وبالَّذين أخْبر الله مُوسَى أنَّه يَبْعَثُهُم من وَلَدِ يَعْقُوب وإسْمَاعِيلَ بعد ذَلِك .

وثانيها : قوله " وَجَعلَكُمْ مُلُوكاً " ، قال ابن عبَّاس : أصْحَاب خدم وحَشَمٍ{[11320]} .

قال قتادةُ : كانوا أوَّل من مَلَك الخدم ، ولم يَكُنْ قَبْلَهم خَدَمٌ{[11321]} ، وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحَدٍ خَادِمٌ وامْرَأةٌ ودَابَّة يُكْتَبُ مَلِكاً " {[11322]} .

وقال أبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمي{[11323]} : سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْن عمرو بن العَاصِ ، وسأله رَجُل فَقالَ : ألَسْنَا فُقَراء{[11324]} المُسْلمين المُهَاجِرِين ؟ فقال لَهُ عَبْدُ الله : " ألَكَ امْرَأةٌ تَأوِي إلَيْهَا ؟ قال : نَعَمْ ، قال : ألَكَ سَكَنٌ تَسْكُنُه ؟ قال : نَعَمْ ، قال : فأنْتَ من الأغْنِيَاء ، قال : لِي خَادِمٌ ، قال : فأنت من المُلُوكِ " {[11325]} .

وقال السديُّ : وجَعَلكُمْ [ مُلُوكاً ]{[11326]} أحراراً تَمْلِكُون أمْرَ أنفُسِكُمْ ، بَعْدَما كُنْتُم في أيْدِي القبطِ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ{[11327]} .

وقال الضَّحَّاك : كانت مَنَازِلُهُمْ واسِعَة ، فيها مِيَاهٌ جَارِيَةٌ{[11328]} ، فمن كان مَسْكَنُهُ واسِعاً وفيه نهرٌ جارٍ ، فهو مَلِكٌ .

وقيل : إنَّ كل من كان رسُولاً ونَبِيّاً كان مَلِكاً ؛ لأنَّه يَمْلِكُ أمْر{[11329]} أمَّتِهِ وكان نافِذَ الحُكْم عليهم فكان مَلِكاً ، ولهذا قال{[11330]} تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] .

وقيل : كان في أسْلافِهِم وأخلافِهِم المُلُوكُ والعُظْمَاءُ{[11331]} ، وقد يُقَال لمن حصل فيهم المُلُوك : أنْتُم ملوكٌ على سَبِيل الاسْتعارَة .

قال الزَّجَّاج{[11332]} : المَلِكُ من لا يَدْخُل علَيْه أحدٌ إلا بإذْنِهِ .

وثالثها : قوله تعالى : { وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } وذلك لأنَّه تعالى خَصَّهم بأنْوَاع عَظِيمَة من الإكْرَامِ ، فلق البَحْرَ لهم وأهْلك عَدُوَّهم وأوْرَثهُمْ أمْوَالهم ، وأنْزَل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى ، وأخرج لهم المياه الغَزِيرَة من الحَجَرِ ، وأظلَّ فَوْقَهُم الغَمام ، ولَمْ يَجْتَمِع{[11333]} المُلْكُ والنُّبُوَّة لِقَومٍ كما اجْتَمَعَا لَهُم ، وكانوا في تِلْكَ الأيَّام هُمُ العُلَمَاءُ باللَّه ، وهم أحْبَابُ اللَّهِ وأنْصَار دينِهِ .

ولما ذَكَر هذه النِّعَمَ وشرحَها لهم أمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَهَاد العَدُوِّ ، فقال : { يَقَوْمِ ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } .


[11317]:في ب: بأمور ثلاثة.
[11318]:ينظر: تفسير الرازي 11/154.
[11319]:في أ: فمنه.
[11320]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/510) عن ابن عباس.
[11321]:أخرجه الطبري في تفسيره"(4/510) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/447) عن قتادة.
[11322]:أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا كما في "الدر المنثور" (2/478). وللحديث شواهد عن زيد بن أسلم. أخرجه الزبير بن بكار في "الموفقيات" كما في "الدر" (2/478) ومن طريقه الطبري في "تفسيره" (4/510) بلفظ: من كان له بيت وخادم فهو ملك وأخرجه أبو داود في مراسيله (204).
[11323]:في أ: الحنبلي.
[11324]:في أ: فعل.
[11325]:أخرجه الطبري في تفسيره(4/510) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/478) وزاد نسبته لسعيد بن منصور عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
[11326]:سقط في أ.
[11327]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير"(11/154) عن السدي. وينظر: البغوي 2/24.
[11328]:ينظر: المصدر السابق.
[11329]:في أ: له.
[11330]:في أ: قاله.
[11331]:في ب: والعلماء.
[11332]:ينظر: الرازي 11/155.
[11333]:في أ: يجمع.