قوله تعالى : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } ، أي : لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا . والرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع ، { ورضوا بالحياة الدنيا } ، فاختاروها وعملوا لها ، { واطمأنوا بها } : سكنوا إليها . { والذين هم عن آياتنا غافلون } ، أي : عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عن آياتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { غافلون } معرضون .
ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين ، وما أعده من ثواب للطائعين ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ . . . } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإِله القادر الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها " .
والمراد بلقائه - سبحانه - الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء . والمعنى : إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها ، وأطمأنوا بها ، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها { والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا } التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { غافلون } بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء الأشقياء بأربع صفات ذميمة .
وصفهم - أولا - بعدم الرجاء في لقاء الله - بأن صاروا لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من عقاب ، لإِنكار الدار الآخرة .
ووصفهم - ثانيا - بأنهم رضوا بالحياة الدنيا ، بأن أصبح همهم محصورا فيها ، وفي لذائذها وشهواتها .
قال الإِمام الرازي : " واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحصالة بالمعارف الربانية ، وأما هخذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها " .
ووصفهم - ثالثا - بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة ، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه ، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله ، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير ، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا .
ووصفهم - رابعا - بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب ، وتهدي العقل ، وتحفز النفس إلى التفكير والتدبير .
وبالجملة فهذه الصفات الأربعة تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم ، واستحبوا الضلالة على الهدى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
والذين يرون كل هذا ، ثم لا يتوقعون لقاء الله ؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة ، وأن الدنيا ليست النهاية ، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود ؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين ، لا تحرك فيهم قلبا يتدبر ، ولا عقلا يتفكر . . هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري ، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون . إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم :
( إن الذين لا يرجون لقاءنا ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ؛ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . .
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا ، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام ، يتم فيها تحقيق القسط والعدل ؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا . ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله ، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا ، بما فيها من نقص وهبوط ، ويرضونها ويستغرقون فيها ، فلا ينكرون فيها نقصا ، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر ؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر ، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم . والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط ، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة ، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق . إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها ! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب ، وترفع الحس ، وتحفز إلى التطلع والكمال . .
{ إن الذين لا يرجون لقاءنا } لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها . { ورضوا بالحياة الدنيا } من الآخرة لغفلتهم عنها . { واطمأنوا بها } وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها . { والذين هم عن آياتنا غافلون } لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له .
قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره ، { يرجون } في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها*** وخالفها في بيت نوب عواسل{[6024]}
وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء : إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف ، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده ، فعلى هذا التأويل معنى الآية : إن الذين لا يخافون لقاءنا ، وقال ابن زيد : هذه الآية في الكفار ، وقال بعض أهل العلم : «الرجاء » في هذه الآية على بابه ، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل ، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف ، وهذه الحال من الخوف المقارن هي الفائدة إلى النجاة ، والذي أقول : إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه ، وقوله { ورضوا بالحياة الدنيا } يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم ، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية : إذا شئت رأيت هذا الموصوف ، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن ، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه ، إذ قد يكون العاصي المجلح{[6025]} مستوحشاً من آخرته ، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر ، وقوله { واطمأنوا بها } تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها وأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره ، وقوله { والذين هم عن آياتنا غافلون } يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط{[6026]} .