قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } قال السدي : التقي الأخنس بن شريق ، وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد بن عبد الله ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء ، والسقاية ، والحجابة ، والندوة ، والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية . وقال ناجبة بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نتهمك ولا نكذبك ، ولكنا نكذب الذي جئت به ، فأنزل الله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } بأنك كاذب .
قوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك } ، قرأ نافع والكسائي بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، من التكذيب ، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب ، وتقول له : كذبت ، والإكذاب هو أن تجده كاذباً ، تقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها ، إذا وجدتها جدبة ومخصبة .
قوله تعالى : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ، يقول : إنهم لا يكذبونك في السر ، لأنهم قد عرفوا صدقك فيما مضى ، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي ، كما قال : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل :94 ] .
ثم أخذ القرآن الكريم فى مخاطبة النبى صلى الله عليه وسلم وفى تسليته عما أصابه من قومه فقال : { قَدْ نَعْلَمُ . . . } .
{ قَدْ } هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره ، والتحقيق هنا جاء من موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم ، لا إلى العلم نفسه ، لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها . والحزن ألم يعترى النفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه .
قال الأمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : يوقل تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم . فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } أى : قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } أى : هم لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن ناجيه عن على قال : قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } . وعن أبى يزيد المدنى أن النبى صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء ؟ فقال : والله إنى لأعلم أنه لنبى ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعاً ؟ وتلا أبو زيد { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه - عليه الصلاة والسلام - كان حريصاً على إسلامهم ، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف ، وفى معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } ومنها قوله - تعالى - { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ومنها قوله - تعالى - { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال الجمل : والفاء فى قوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } للتعليل ، فإن قوله { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } بمعنى لا يحزنك ، كما يقال فى مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل . ووجه التعليل : أن التكذيب فى الحقيقة لى وأنا الحليم الصبور ، فتخلق بأخلاقى . ويحتمل أن يكون المعنى : إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لى فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم .
والمعنى : إن هؤلاء الكفار - يا محمد - لا ينسبونك إلى الكذب ، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين ، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها .
والجحود هو الإنكار مع العلم ، أى نفى ما فى القلب ثبوته ، أو إثبات ما فى القلب نفيه ، وفى التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود .
وقال - سبحانه - { ولكن الظالمين } ولم يقل ( ولكنهم ) ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذى استقر فى نفوسهم ، وفيه فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب .
( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد [ ص ] فلقد عرفوه صادقا أمينا ، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة ، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته ، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله
ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق ، ويرفضون الدخول في الدين الجديد ! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي [ ص ] ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم . . وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله ، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه . .
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة :
قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : أنه حدث ، أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه . وكل لا يعلم بمكان صاحبة . فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له . حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود . فتعاهدوا على ذلك . . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . . أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولانصدقه ! قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
وروى ابن جرير - من طريق أسباط عن السدي - في قوله : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . . لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته ، فإن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته . قفوا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئا - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل ، فخلا به ، فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ! فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . .
ونلاحظ : أن السورة مكية ، وهذه الآية مكية لا شك في ذلك ؛ بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر . . ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحيانا عن آية ما : " فذلك قوله : كذا . . " ويقرنون إليها حادثا ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ؛ ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث ، بغض النظر عما إذا كان سابقا أو لاحقا . . فإننا لا نستغرب هذه الرواية . .
وقال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله [ ص ] جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ، ورأوا أصحاب رسول الله [ ص ] يزيدون ويكثرون - فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله [ ص ] فقال : يا ابن أخي . . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة ، والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله [ ص ] : " قل : يا أبا الوليد أسمع " قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع امرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء ، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله [ ص ] يستمع منه - قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم . قال : " فاستمع مني " . قال : أفعل . قال : ( بسم الله الرحمن الرحيم حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . . ) ثم مضى رسول الله [ ص ] فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله [ ص ] إلى السجدة منها فسجد . ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك " . . فقام عتبة إلى أصحابة . فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليدبغير الوجه الذي ذهب به ! فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم !
وقد روى البغوي في تفسيره حديثا - بإسناده - عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله [ ص ] مضى في قراءته إلى قوله : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . فأمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم . . . إلى آخره . . . ثم لما حدثوه في هذا قال : فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب . .
وقال ابن اسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به . قال : بل أنتم فقولوا : أسمع . قالوا : نقول : كاهن ! قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ! قالوا : فنقول : مجنون ! قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ! قالوا : فنقول : شاعر ! قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ! قالوا : فنقول : ساحر ! قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ! قالوا : فما نقول يا أبا عبد الشمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ،
وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره !
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثورة ، عن معمر ، عن عبادة بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي [ ص ] فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام . فأتاه فقال له : أي عم ! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ! قال : لم ؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ! [ يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازا ! ] قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا ! قال : فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له ! قال : فماذا أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ! والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا . والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى . قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال : فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر . يؤثره عن غيره . فنزلت : ( ذرني ومن خلقت وحيدا . . )حتى بلغ : ( عليها تسعة عشر ) .
وفي رواية أخرى أن قريشا قالت : لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها ! فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ! ثم دخل عليه . . وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله [ ص ] يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب ، الذي يزاولونه ، وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة . وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم :
( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .
{ قد يعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله :
ولكنه قد يهلك المال نائله *** . . .
والهاء في أنه للشأن . وقرئ { ليحزنك } من أحزن . { فإنهم لا يكذبونك } في الحقيقة . وقرأ نافع والكسائي { لا يكذبونك } من أكذبه إذا وجده كاذبا ، أو نسبة إلى الكذب . { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها ، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم ، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب .
{ قد نعلم } الآية ، { قد } الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدراً عنده ، فإذا كان الفعل خالصاً للاستقبال كان التوقع من المتكلم ، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا ، وإذا كان الفعل ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه ، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به ، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين ، و { نعلم } تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه ، فهي تعم المضي والحال والاستقبال ، ودخلت «إن » للمبالغة في التأكيد ، وقرأ نافع وحده «ليُحزنك » من أحزن ، وقرأ الباقون «ليَحزنك » من حزن الرجل ، وقرأ أبو رجاء «لِيحزِنْك » بكسر اللام والزاي وجزم النون ، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة «يحزنك » بغير لام ، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزناً وحزناً وحزنته أنا ، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته ، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزناً كما تقول كحلته ودهنته ، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته ، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب «خباة » العرب أحزنت الرجل ، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالاً عندهم من أحزنته ، فمن قرأ «ليُحزنك » بضم الياء فهو على القياس في التغيير ، ومن قرأ «ليَحزنُك » بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال ، و { الذي يقولون } لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته ، كقول بعضهم :إنه كذاب ، مفتر ، ساحر ، وقول بعضهم : له َرِئيُّ من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وعاصم وحمزة { لا يكذبونك } بتشديد الدال وفتح الكاف ، وقرأها ابن عباس وردها على قارىء عليه «يُكذبونك » بضم الياء ، وقال : إنهم كانوا يسمونه الأمين ، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال ، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان ، اختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة : هما بمعنى واحد كما تقول :
سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت ، حكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، وتقول العرب ايضاً : أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول«أحمدته » إذا وجدته محموداً ، فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك » بتشديد الذال أي لا تحزن «فإنهم لا يكذبونك » تكذيباً على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عناداً منهم وظلماً ، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول : إنا لنعلم أن محمداً صادقاً ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبداً ، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه ، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ، ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس{[4895]} ، والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك » بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولاً في «يكذبونك » أي لا يجدونك كاذباً في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك » بشد الذال ، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، و { يجحدون } حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار ، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما ، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها وُيِقَّربها .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم ، وأما أقوال جميعهم فمكذبة ، إما له وإما للذي جاء به .
قال القاضي أبو محمد : وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه ، كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[4896]} وغيرها ، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه ، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان ، والجحد يقتضي الكفر ، ولا سبيل إلى اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى :{ وجحدوا بها } [ النمل : 14 ] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها .
قال القاضي أبو محمد : ودفع ما يتصور ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب ، أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ، ومن عرف الله والنبوة وأن محمداً يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك ، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فحلاً عظيماً من الإبل قد همَّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك ، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه السلام حزيناً فسأله ، فقال : كذبني هؤلاء ، فقال : «إنهم لا يكذبونك » بل يعلمون أنك صادق { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفونها أو أكثرها ، ثم يرون من آياته زائداً على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب ، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة :هو ذلك ، ومرة : عساه ليسه ، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة ، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا ، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة .