فقال أحدهما : { إن هذا أخي } أي : على ديني وطريقتي ، { له تسع وتسعون نعجةً } يعني امرأة { ولي نعجة واحدة } أي امرأة واحدة ، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة ، قال الحسين بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم ، لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمراً ، أو اشترى بكر داراً ، ولا ضرب هنالك ولا شراء . { فقال أكفلنيها } قال ابن عباس : أعطنيها . قال مجاهد : انزل لي عنها . وحقيقته : ضمها إلي فاجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها لأتزوجها . { وعزني } غلبني ، { في الخطاب } أي : في القول . وقيل : قهرني لقوة ملكه . قال الضحاك : يقول إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده ، وإن كان الحق معي . وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه .
ثم أخذا فى شرح قضيتهما فقال أحدهما : " إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب " .
والمراد بالأخوة هنا : الأخوة فى الدين أو فى النسب ، أوفيهما وفى غيرهما كالصحبة والشركة .
والنعجة : الأنثى من الضأن . وتطلق على أنثى البقر .
وقوله : { أَكْفِلْنِيهَا } أى : ملكنى إياها ، وتنازل لى عنها ، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التى عندى ، ليتم عددها مائة .
وقوله : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أى : غلبنى فى المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى . . يقال : فلان عز فلانا فى الخطاب ، إذا غلبه . ومنه قولهم فى المثل : من عزَّ بزَّ . أى : من غلب غيره سلبه حقه . أى : قال أحدهما لداود - عليه السلام - : إن هذا الذى يجلس معى للتحاكم أمامك أخى . وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة ، أما أنا فليس لى سوى نعجة واحدة ، فطمع فى نعجتى وقال لى : { أَكْفِلْنِيهَا } أى : ملكنيها وتنازل عنها { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } .
وجملة { إنَّ هذا أخِي } إلى آخرها بيان لجملة { خصمان بغى بعضنا على بعضٍ } وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوّة النسب . وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات ، ثم يجوز أن يكون { أخِي } بدلاً من اسم الإِشارة . ويجوز أن يكون خبر { إنَّ } وهو أولى لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه .
و { عَزّني } غلبني في مخاطبته ، أي أظهر في الكلام عزّة عليّ وتطاولاً . فجَعل الخطاب ظرفاً للعزّة مجازاً لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال .
والمعنى : أنه سأله أن يعطيه نعجته ، ولمّا رأى منه تمنّعاً اشتدّ عليه بالكلام وهدّده ، فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك ليصدّه عن معاملة أخيه معاملة الجفاء والتطاول ليأخذ نعجته عن غير طيب نفس . وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإِنصاف في معاملة القرابة لئلا يفضي الخلافُ بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم .
وقد عَلم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما ، أو كان المدعَى عليه قد اعترف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له...
"إنّ هَذَا أَخي": أي على ديني، "لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ"...
وقوله: "فقالَ أكْفِلْنِيها "يقول: فقال لي: انزل عنها لي وضمها إليّ... وقوله: "وَعَزّنِي فِي الخِطابِ": يقول: وصار أعزّ مني في مخاطبته إياي، لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني... عن قتادة: "وَعَزّني فِي الخِطابِ": أي ظلمني وقهرني.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن تكون خصومة هؤلاء الملائكة عند داوود عز وجل وما كان منهم من القول والخصومة، ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ليعرف ذلك ويرجع عنها.
فإن قيل: كيف عوتب كل هذا العتاب حتى بعث الله الملائكة إليه بالخصومة عنده والتمسك بما ذكر وتقرير ذلك عنده، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة أن كان معذورا في ذلك غير مؤاخذ به؟ قيل: إن الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك، بل يعد ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها، نحو ما عوتب يونس عليه السلام في خروجه من بين قومه ليسلم دينه أو نفسه، لكنه خرج بلا إذن كان له من الله، فعوتب لذلك. فعلى ذلك داوود عليه السلام وإنما فعل ذلك بلا إذن من الله عز وجل.
{أكفلنيها}... قال بعضهم: أكفلته أي أعطيته، وهو قول أبي عوسجة، وقال بعضهم: أي ضمها إلي، واجعلني كافلها، وهو قول القتبي.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَخِي} بدل من هذا أو خبر ل (إنّ) والمراد... أخوّة الصداقة والألفة، و أخوّة الشركة والخلطة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء} [ص: 24] كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم...
اعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القضية -كما عرضها أحد الخصمين- تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إنَّ هذا أخِي} إلى آخرها بيان لجملة {خصمان بغى بعضنا على بعضٍ} وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوّة النسب، وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات، ثم يجوز أن يكون {أخِي} بدلاً من اسم الإِشارة، ويجوز أن يكون خبر {إنَّ} وهو أولى؛ لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه. {عَزّني}... أظهر في الكلام عزّة عليّ وتطاولاً، فجَعل الخطاب ظرفاً للعزّة مجازاً؛ لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال، والمعنى: أنه سأله أن يعطيه نعجته، ولمّا رأى منه تمنّعاً اشتدّ عليه بالكلام وهدّده، فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك ليصدّه عن معاملة أخيه معاملة الجفاء والتطاول ليأخذ نعجته عن غير طيب نفس، وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإِنصاف في معاملة القرابة لئلا يفضي الخلافُ بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم، وقد عَلم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما، أو كان المدعَى عليه قد اعترف.