المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ} (23)

وقوله : { إن هذا أخي } إعراب أخي عطف بيان ، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف ، فإنه نعت محض ، والعامل فيه هو العامل في الموصوف ، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل ، والعامل فيه مكرر ، وتقول : جاءني أخوك زيد ، فالتقدير : جاءني أخوك جاءني زيد ، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون } [ يس : 31 ] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان ، وهو بين في قول الشاعر : [ الرجز ]

يا نصر نصراً نصرا*** . . . . . . . . . . . .

فإن الرواية في الثاني بالتنوين ، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه ، فليس ببدل ، وصح فيه عطف البيان ، وهذه الأخوة مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان ، والله أعلم . و «النعجة » في هذه الآية ، عبر بها عن المرأة . والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش ، وعلى أنثى الضأن ، وتعبر العرب بها عن المرأة ، وكذلك بالشاة ، قال الأعشى : [ الكامل ]

فرميت غفلة عينه عن شاته***فأصبت حبة قلبها وطحالها .

أراد عن امرأته ، وفي قراءة ابن مسعود : «وتسعون نعجة أنثى » . وقرأ حفص عن عاصم : «وليَ » بفتح الياء . وقرأ الباقون بسكونها ، وهما حسنان . وقرأ الحسن والأعرج : «نِعجة » بكسر النون ، والجمهور على فتحها . وقرأ الحسن : «تَسع وتَسعون » بفتح التاء فيهما وهي لغة .

وقوله : { أكفلنيها } أي ردها في كفالتي ، وقال ابن كيسان ، المعنى : اجعلها كفلي ، أي نصيبي . { وعزتي } : معناه غلبني ، ومنه قول العرب : من عز بز ، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة : «وعزني » بتخفيف الزاي . قال أبو الفتح : أراد عززني ، فحذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال أبو زيد : أحسن به فهن إليه شوس .

قال أبو حاتم : ورويت «عزني » بتخفيف الزاي عن عاصم . وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير : «وعازني » ، أي غالبني .

ومعنى قوله : { في الخطاب } كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي ، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر : ما تقول ؟ فأقر وألد ، فقال له داود : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك . وقال للثاني : لقد ظلمك ، فتبسما عند ذلك ، وذهبا ولم يرهما لحينه ، فشعر حينئذ للأمر .

وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه . وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها ، وقالا له : إنما نحن مثال لك . وقال بعض الناس : إن داود قال : لقد ظلمك ، قبل أن يسمع حجة الآخر ، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه : وهذا ضعيف من جهات ، لأنه خالف متظاهر الروايات ، وأيضاً فقوله : { لقد ظلمك } إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف ، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق ، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة . وقال الثعلبي : كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصاراً ، ومن أجله قال داود : { لقد ظلمك } .