الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ} (23)

{ أَخِى } بدل من هذا أو خبر ل ( إنّ ) . والمراد أخوّة الدين ، أو أخوّة الصداقة والألفة ، و أخوّة الشركة والخلطة ؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } [ ص : 24 ] كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم . وقرىء : «تسع وتسعون » ، بفتح التاء . ونعجة ، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات ، نحو نطع ونطع ، ولَقْوَةٌ وَلِقْوَة { أَكْفِلْنِيهَا } ملكنيها . وحقيقته : أجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي { وَعَزَّنِى } وغلبني . يقال : عزّه يعزّه . قال :

قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ *** يُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ

يريد : جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أردّه به . وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل : أو أراد : خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً ، أي ؛ غالبني في الخطبة فغلبني ، حيث زوّجها دوني . وقرىء : «وعازني » من المعازة وهي المغالبة . وقرأ أبو حيوة : «وعزني » بتخفيف الزاي طلباً للخفة ، وهو تخفيف غريب ، وكأنه قاسه على نحو : ظلت ، ومست .

فإن قلت : ما معنى ذكر النعاج ؟ قلت : كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلاً وكلامهم تمثيلاً ؛ لأنّ التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا ، وللتنبيه على أنه أمر يستحيا من كشفه ، فيكنى عنه كما يكنى عما يستسمج الإفصاح به ، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته . ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه ، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، والدليل عليه قوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء } [ ص : 24 ] وإنما خصّ هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة .

فإن قلت : إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال ، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم . قلت : الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة ، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله :

َيا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ***فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ

وشبهها بالنعجة من قال :

كَنِعَاجِ الْمَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلاَ ***لولا أنّ الخلطاء تأباه

إلاّ أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلاً لهم ولقصتهم .

فإن قلت : الملائكة عليهم السلام كيف صحّ منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يلتبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم ؟ قلت : هو تصوير للمسألة وفرض لها ، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي ، كما تقول في تصوير المسائل : زيد له أربعون شاة ، وعمرو له أربعون ، وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال عليه الحول ، كم يجب فيها ؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد وتقول أيضاً في تصويرها : لي أربعون شاة ولك أربعون فخلطناها . ومالكما من الأربعين أربعة ولا ربعها .

فإن قلت : ما وجه قراءة ابن مسعود : «ولي نعجة أنثى » ؟ قلت : يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة . والمعنى : وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها ، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها . ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال . وقوله : فَتُورُ الْقِيَامِ قَطِيعُ الكَلاَمِ . وقوله : تَمْشِي رُوَيْداً تَكَادُ تَنْغَرِفُ