التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ} (23)

{ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } هذه حكاية كلام أحد الخصمين ، والأخوة هنا أخوة الدين ، والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن ، وهي هنا عبارة عن المرأة ، ومعنى أكفلنيها أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي ، وقيل : اجعلها كفلي أي : نصيبي ، ومعنى عزني في الخطاب أي : غلبني في الكلام والمحاورة يقال : عز فلان فلانا إذا غلبه وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها . وقد اختلف الناس فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( من حدث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ) ، ونحن نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام : روي : أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها ، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك ، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته فسأله النزول عنها ففعل وتزوجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة فبعث الله إليه ملائكة مثالا لقصته ، فقال أحدهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى التسع والتسعين امرأة التي كانت لداود ، ولي نعجة واحدة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة ، فقال : أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله : { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } فقامت الحجة عليه بذلك ، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما ، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله له على ما وقع فيه .

{ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعا ، وإنما عوتب على أمر جائز كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلو مرتبته ومتانة دينه ، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأيضا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء ، وإن كان جائزا ، وروي : هذا الخبر على وجه آخر ، وهو أن داود انفرد يوما في محرابه للتعبد فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده وأنه خرج للجهاد مع الجند فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت وهو موضع قل ما تخلص أحد منه فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها ، وقيل : إن داود هم بذلك كله ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك ، وروي : أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة ، وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة .