تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ} (23)

وقوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } وقوله : { أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } ونحوه من الكلام والقول الذي كان منهما : كيف حققا ذلك ، وقطعاه ؟ أنهما خصمان ، ولم يكون في الحقيقة خصمين ، وأن لهذا كذا وكذا نعجة ، ولهذا واحدة ، ولم يكن في الحقيقة ذلك ، وأن هذا بغى على هذا ، ونحو ذلك من الخصومات التي جرت بينهما ، ولم يكن ذلك كذلك في الحقيقة ، كيف قالا ذلك ، وحققناه ؟ وهم ملائكة ، والملائكة لا يحتمل إن يكذبوا قط ، أو يرسلهم الله ليكذبوا ؟

لكنه ، والله أعلم ، على التقرير والتمسك ، أي لو كان لأحدهما كذا كذا نعجة وللآخر واحدة ، فغلب صاحب النعاج الكثيرة على صاحب النعجة ، فأخذها ، أليس يكون ظالما ، أو يكون باغيا ؟ ليس على التحقيق ، ولكن لما ذكرنا : يقدران عنده الزلة ، ويمثلان الخطيئة إن كانت له على ما يقوله أهل التأويل يقدرونه . وقد

ذكر الله تعالى أشياء كثيرة على التقرير والتمثيل على تقرير أشياء غفلوا عنها ، وسهوا فيها ، فعلى ذلك يشبه أن تكون خصومة هؤلاء الملائكة عند داوود عز وجل وما كان منهم من القول والخصومة ، ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ، ليعرف ذلك ، ويرجع عنها ، والله أعلم .

ثم قول أهل التأويل : إن طائرا وقع بين يديه قريبا منه ، فنظر إليه ، وصار معجبا به ، فهم أن يأخذه ، وارتفع إلى كوة المحراب ، فصعد ليأخذه ، فوقع بصره على امرأة ، فأعجبته . فإن هذا يحتمل أن يكون .

وأما قولهم : أدام النظر : أما هذا فإنه لا يحتمل أن يكون من داوود أو نبي من الأنبياء عليهم السلام أنه يديم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه .

وأما الأول من الذهاب لطلب ذلك الطائر والنظر إليه : أنه من أين ؟ وإلى ماذا ؟ فذلك يحتمل أن يكون ، ثم هو يكون معذورا في الصعود إلى الكوة والارتفاع للنظر إلى الطائر لما كانت الطيور قد حشرت له ، وسخرت في التسبيح معه والطاعة له ، فجائز أن يكون له البحث والفحص عن حال ذلك الطائر على ما أخبر سليمان حين قال عز وجل : { وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد } [ النمل : 20 ] .

فإذا كان ما ذكرنا كان هو في الصعود إلى الكوة والارتفاع إلى ذلك معذورا ، لكن وقع بصره عليها بلا قصد منه ، ولا علم بحالها ، ومال قلبه إليها لحسنها وجمالها ، وذلك ما يكون بلا تكلف ولا تصنع ، وذلك مما لا يملك دفعه نحو ما كان ميل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة زيد ووعد الله له نكاحها حين قال عز وجل : { لما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } [ الأحزاب : 37 ] .

وأما ما ذكر من بعث زوجها إلى القتال ليقتل أيضا غير محتمل ، لكن يحتمل بعثه إياه ليجاهد أعداء الله ، وكان ذلك فرضا عليه ، فصار مقتولا فيه من غير أن يتوهم منه أنه قصد قتله وهلاكه ، والله أعلم .

فإن قيل : كيف عوتب كل هذا العتاب حتى بعث الله الملائكة إليه بالخصومة عنده والتمسك بما ذكر وتقرير ذلك عنده ، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة أن كان معذورا في ذلك غير مؤاخذ به ؟

قيل : إن الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك ، بل يعد ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها نحو ما عوتب يونس عليه السلام في خروجه من بين قومه ليسلم دينه أو نفسه . لكنه خرج بلا إذن كان له من الله ، فعوتب لذلك . فعلى ذلك داوود عليه السلام وإنما فعل ذلك بلا إذن من الله عز وجل والله أعلم .

ثم في بعث الملائكة إليه في ما ذكر وجوه من الحكمة وأنواع من الفائدة :

أحدها : جواب الحجاب و الحرس عن حين دخلوا عليه من غير الباب .

والثاني : دفع الحجاب عن الخصوم لا على وقت حاجه نفسه حين دخلوا عليه من غير الباب للخصومة بلا إذن منه .

والثالث : قدرة الله على تصوير الملائكة بصورة البشر مع كون النفس الكثيفة ووجود الجسد معهم . وذلك يرد على الفلاسفة مذهبهم : أن النفس الروحانية خلقت منتشرة متحركة في كل حال ، لكن الجسد الذي جعلت فيه يمنعها عن ذلك ، فإذا نام ذلك الجسد ، أو مات ذهبت تلك النفس حيث شاءت إلى حاجتها .

ألا ترى أن الملائكة قد صوروا عليه بصورة البشر ، واختصموا إليه خصومة البشر ، دل [ ذلك على أنهم ليسوا } على ما وصفهم ؟

ثم قوله عز وجل : { إذا تسوروا المحراب } قال بضعهم : صعدوا . وأصل التسور هو الدخول من العلو والارتفاع ، وهو النزول من السور ، وهو الحائط المشرف المرتفع .

وقوله تعالى : { ففزع منهم } لما خاف دخول الموهن في ملكه إذ دخلوا بلا إذن من غير الباب ، أو خاف لما ظن أنهم لصوص مكابرون ، أو لما عرف أنهم ملائكة جاؤوا بأمر عظيم ونحوه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تشطط } أي لا تجر .

وقوله تعالى : { أكفلنيها } قال بعضهم : أعطنيها ، وقال بعضهم : أكلفته ، أي أعطيته ، وهو قول أبي عوسجة ، وقال بعضهم : أي ضمها إلي ، واجعلني كافلها ، وهو قول القتبي .

وقوله تعالى : { وعزني في الخطاب } قال بعضهم : غلبني في الخصومة .