وقوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } وقوله : { أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } ونحوه من الكلام والقول الذي كان منهما : كيف حققا ذلك ، وقطعاه ؟ أنهما خصمان ، ولم يكون في الحقيقة خصمين ، وأن لهذا كذا وكذا نعجة ، ولهذا واحدة ، ولم يكن في الحقيقة ذلك ، وأن هذا بغى على هذا ، ونحو ذلك من الخصومات التي جرت بينهما ، ولم يكن ذلك كذلك في الحقيقة ، كيف قالا ذلك ، وحققناه ؟ وهم ملائكة ، والملائكة لا يحتمل إن يكذبوا قط ، أو يرسلهم الله ليكذبوا ؟
لكنه ، والله أعلم ، على التقرير والتمسك ، أي لو كان لأحدهما كذا كذا نعجة وللآخر واحدة ، فغلب صاحب النعاج الكثيرة على صاحب النعجة ، فأخذها ، أليس يكون ظالما ، أو يكون باغيا ؟ ليس على التحقيق ، ولكن لما ذكرنا : يقدران عنده الزلة ، ويمثلان الخطيئة إن كانت له على ما يقوله أهل التأويل يقدرونه . وقد
ذكر الله تعالى أشياء كثيرة على التقرير والتمثيل على تقرير أشياء غفلوا عنها ، وسهوا فيها ، فعلى ذلك يشبه أن تكون خصومة هؤلاء الملائكة عند داوود عز وجل وما كان منهم من القول والخصومة ، ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ، ليعرف ذلك ، ويرجع عنها ، والله أعلم .
ثم قول أهل التأويل : إن طائرا وقع بين يديه قريبا منه ، فنظر إليه ، وصار معجبا به ، فهم أن يأخذه ، وارتفع إلى كوة المحراب ، فصعد ليأخذه ، فوقع بصره على امرأة ، فأعجبته . فإن هذا يحتمل أن يكون .
وأما قولهم : أدام النظر : أما هذا فإنه لا يحتمل أن يكون من داوود أو نبي من الأنبياء عليهم السلام أنه يديم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه .
وأما الأول من الذهاب لطلب ذلك الطائر والنظر إليه : أنه من أين ؟ وإلى ماذا ؟ فذلك يحتمل أن يكون ، ثم هو يكون معذورا في الصعود إلى الكوة والارتفاع للنظر إلى الطائر لما كانت الطيور قد حشرت له ، وسخرت في التسبيح معه والطاعة له ، فجائز أن يكون له البحث والفحص عن حال ذلك الطائر على ما أخبر سليمان حين قال عز وجل : { وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد } [ النمل : 20 ] .
فإذا كان ما ذكرنا كان هو في الصعود إلى الكوة والارتفاع إلى ذلك معذورا ، لكن وقع بصره عليها بلا قصد منه ، ولا علم بحالها ، ومال قلبه إليها لحسنها وجمالها ، وذلك ما يكون بلا تكلف ولا تصنع ، وذلك مما لا يملك دفعه نحو ما كان ميل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة زيد ووعد الله له نكاحها حين قال عز وجل : { لما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } [ الأحزاب : 37 ] .
وأما ما ذكر من بعث زوجها إلى القتال ليقتل أيضا غير محتمل ، لكن يحتمل بعثه إياه ليجاهد أعداء الله ، وكان ذلك فرضا عليه ، فصار مقتولا فيه من غير أن يتوهم منه أنه قصد قتله وهلاكه ، والله أعلم .
فإن قيل : كيف عوتب كل هذا العتاب حتى بعث الله الملائكة إليه بالخصومة عنده والتمسك بما ذكر وتقرير ذلك عنده ، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة أن كان معذورا في ذلك غير مؤاخذ به ؟
قيل : إن الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك ، بل يعد ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها نحو ما عوتب يونس عليه السلام في خروجه من بين قومه ليسلم دينه أو نفسه . لكنه خرج بلا إذن كان له من الله ، فعوتب لذلك . فعلى ذلك داوود عليه السلام وإنما فعل ذلك بلا إذن من الله عز وجل والله أعلم .
ثم في بعث الملائكة إليه في ما ذكر وجوه من الحكمة وأنواع من الفائدة :
أحدها : جواب الحجاب و الحرس عن حين دخلوا عليه من غير الباب .
والثاني : دفع الحجاب عن الخصوم لا على وقت حاجه نفسه حين دخلوا عليه من غير الباب للخصومة بلا إذن منه .
والثالث : قدرة الله على تصوير الملائكة بصورة البشر مع كون النفس الكثيفة ووجود الجسد معهم . وذلك يرد على الفلاسفة مذهبهم : أن النفس الروحانية خلقت منتشرة متحركة في كل حال ، لكن الجسد الذي جعلت فيه يمنعها عن ذلك ، فإذا نام ذلك الجسد ، أو مات ذهبت تلك النفس حيث شاءت إلى حاجتها .
ألا ترى أن الملائكة قد صوروا عليه بصورة البشر ، واختصموا إليه خصومة البشر ، دل [ ذلك على أنهم ليسوا } على ما وصفهم ؟
ثم قوله عز وجل : { إذا تسوروا المحراب } قال بضعهم : صعدوا . وأصل التسور هو الدخول من العلو والارتفاع ، وهو النزول من السور ، وهو الحائط المشرف المرتفع .
وقوله تعالى : { ففزع منهم } لما خاف دخول الموهن في ملكه إذ دخلوا بلا إذن من غير الباب ، أو خاف لما ظن أنهم لصوص مكابرون ، أو لما عرف أنهم ملائكة جاؤوا بأمر عظيم ونحوه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ولا تشطط } أي لا تجر .
وقوله تعالى : { أكفلنيها } قال بعضهم : أعطنيها ، وقال بعضهم : أكلفته ، أي أعطيته ، وهو قول أبي عوسجة ، وقال بعضهم : أي ضمها إلي ، واجعلني كافلها ، وهو قول القتبي .
وقوله تعالى : { وعزني في الخطاب } قال بعضهم : غلبني في الخصومة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.