معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

قوله تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، يعني : أهلك القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم ، فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها ، وتعمرونها بعدهم ، والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه .

قوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } ، أي : خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل .

قوله تعالى : { ليبلوكم في ما آتاكم } ، ليختبركم فيما رزقكم ، يعني : يبتلي الغني والفقير ، والشريف والوضيع ، والحر والعبد ، ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب . قوله تعالى : { إن ربك سريع العقاب } ، لأن ما هو آت فهو سريع قريب ، قيل : هو الهلاك في الدنيا .

قوله تعالى : { وإنه لغفور رحيم } ، قال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ، غفور لأوليائه رحيم بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

ثم ختمت السورة بهذه الآية { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض } أى : خلائف القرون الماضية ، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها وتعمروها بعدهم .

وخلائف : جمع خليفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة ، لأنه يخلفه .

وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أى : فاوت بينكم فى الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك .

ثم بين - سبحانه - العلة فى ذلك فقال : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } أى : ليختبركم فى الذى أنعم به عليكم ، يختبر الغنى فى غناه ويسأله عن شكره ، ويختبر الفقير فى فقره ويسأله عن صبره .

وفى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت فى النساء " .

ثم رهب - سبحانه - من معصيته ، ورغب فى طاعته فقال . { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لمن عصاه وخالف رسله . { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين .

أما بعد : فهذه هى سورة الأنعام التى عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجاً قوياً حكيماً يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك ، والتى طوفت بالنفس البشرية فى الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون ، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من نعم ، والتى كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره فى كل مظانه ومكامنه . لتدمغه وتدحضه وتخلص النفس البشرية والحياة الإنسانية من أمراضه وأدرانه .

تلك هى سورة الأنعام التى نزلت مشعة بالملأ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلى لها ، لا نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة ، من توجيهات وهدايات ، وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم ، نرجو الله أن ينفع به ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .

{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

154

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

ختام السورة:

خاتمة تفسير سورة الأنعام

ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مراراً من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام . فهي صور متنوعةللحقيقة الواحدة . . الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير . وتبدو مرة في صورة منهج للحياة . . وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين . .

ولكننا نتلفت الآن - وقد انتهى سياق السورة - على المدى المتطاول ، والمساحة الشاسعة ، والأغوار البعيدة . . تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة - ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء - فإذا هو شيء هائل هائل . . وننظر إلى حجم السورة ، فإذا هي كذا صفحة ، وكذا آية ، وكذا عبارة . . ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات ؛ في مثل هذه المساحة المحدودة ! . . وذلك فضلاً على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها ، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك . .

ألا إنها رحلة شاسعة الآماد ، عميقة الأغوار ، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة . . رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة . . رحلة تكفي وحدها لتحصيل " مقومات التصور الإسلامي " !

حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها . .

وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون ، ومن قدر مجهول ، ومن مشيئة تمحو وتثبت ، وتنشئ وتعدم ، وتحيي وتميت ، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء .

وحقيقة النفس الإنسانية ، بأغوارها وأعماقها ، ودروبها ومنحنياتها ، وظاهرها وخافيها ، وأهوائها وشهواتها ، وهداها وضلالها ، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن . وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال . .

ومشاهد قيامة ، ومواقف حشر ، ولحظات كربة وضيق ، ولحظات أمل واستبشار . ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض ؛ ولقطات من تاريخ الكون والحياة .

وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة . والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها ، في سياقها الفريد ، وفي أدائها العجيب .

إنه الكتاب " المبارك " . . وهذه - بلا شك - واحدة من بركاته الكثيرة . . والحمد لله رب العالمين . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } أي : جعلكم تعمرون الأرض جيلا بعد جيل ، وقَرْنا بعد قرن ، وخَلَفا بعد سَلَف . قاله ابن زيد وغيره ، كما قال : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] ، وكقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] ، وقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] .

وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق ، والمحاسن والمساوي ، والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك ، كقوله : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [ الزخرف : 32 ] ، وقوله [ تعالى ]{[11532]} : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 21 ] .

وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره .

وقد روى مسلم في صحيحه ، من حديث أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف{[11533]} تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " {[11534]} .

وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ترهيب وترغيب ، أن حسابه وعقابه سريع ممن{[11535]} عصاه وخالف رسله { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خير وطلب .

وقال محمد بن إسحاق : يرحم العباد على ما فيهم . رواه ابن أبي حاتم .

وكثيرا ما يقرن تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ، كما قال [ تعالى ]{[11536]} : وقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] ، [ وقوله ]{[11537]} : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] وغير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهذا وبهذا ليَنْجَع في كُلَّ بحَسَبِه . جَعَلَنا الله ممن{[11538]} أطاعه فيما أمر ، وترك ما عنه نهى وزَجَر ، وصدقه فيما أخبر ، إنه قريب مجيب سميع الدعاء ، جواد كريم وهاب .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زُهَيْر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[11539]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طَمِع بالجنة أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنطَ من الجنة أحد ، خلق الله مائة رَحْمَة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها ، وعند الله تسعة وتسعون " .

ورواه الترمذي ، عن قُتَيْبَة ، عن عبد العزيز الدَّراوَرْدي ، عن العلاء به . وقال : حسن [ صحيح ]{[11540]} . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حُجْر ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء{[11541]} .

[ آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة ]{[11542]}


[11532]:زيادة من أ.
[11533]:في أ: "فناظر ماذا".
[11534]:صحيح مسلم برقم (2742).
[11535]:في أ: "فيمن".
[11536]:زيادة من أ.
[11537]:زيادة من أ.
[11538]:في أ: "فيمن".
[11539]:زيادة من أ.
[11540]:زيادة من أ.
[11541]:المسند (2/484) وسنن الترمذي برقم (3542) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2752) حدثنا يحيي بن أيوب وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل بن جعفر به.
[11542]:زيادة من م، أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث ، وعلى وقوعه ، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها ، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل ، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى . ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا ، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين ، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم } . ولذلك أعقبه بتذييله : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } .

فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم : { أغير الله أبغي رباً } [ الأنعام : 164 ] ؛ وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك . فموقع هذه عقب قوله : { ثم إلى ربكم مرجعكم } [ الأنعام : 164 ] تذكير بالنّعمة ، بعد الإنذار بسلبها ، وتحريض على تدارك ما فات ، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها .

ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة ، وتكون الإضافة على معنى اللام ، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض ، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض . والمراد : الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر .

والخلائف : جمع خليفة ، والخليفة : اسم لما يُخلف به شيء ، أي يجعل خلفاً عنه ، أي عوضَه ، يقال : خليفة وخِلْفة ، فهو فَعيل بمعنى مفعول ، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه .

وإضافته إلى الأرض على معنى ( في ) على لوجه الأوّل ، وهو كون الخَطاب للمشركين ، أي خلائف فيها ، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ] { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ] . والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين .

وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة : وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم ، فهذه نعمة ، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء .

وعطْف قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله : { جعلكم خلائف الأرض } فهو أيضاً عبرة وعِظة ، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم .

ولذلك عقّبه بقوله : { ليبلونكم ما آتاكم } أي ليَخْبُركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات . والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم . وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه .

والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيهاً للتكوين بإعطاء المعطي شيئاً لغيره .

والبلْو : الاختبار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] . والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب النّاس ، ولكن سمّى ذلك بَلْوى لأنَّها لا تظهر للعيان إلاّ بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التّعليل ، وقريب منه قول إياس بن قبيصَة الطائي :

وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعلم مَنْ جَبانها مِن شُجاعها

وجملة : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة { سريع العقاب } وصفة { لغفور } ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة .

واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقَب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى : كلّ آت قريب ، إذ لا موقع له هنا .

ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف ( سريع العقاب ) على موكِّد واحد ، وتعزيز وصف ( الغفور الرحيم ) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ ، ولام الابتداء ، والتّوكيد اللّفظي ؛ لأنّ ( الرّحيم ) يؤكِّد معنى ( الغفور ) : ليُطمئِن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه .