قوله تعالى : { قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين * ثم ننجي رسلنا } ، قرأ يعقوب ننجي خفيف مختلف عنه ، { والذين آمنوا } ، معهم عند نزول العذاب معناه : نجينا ، مستقبل بمعنى الماضي ، { كذلك } ، كما نجيناهم ، { حقاً } ، واجبا ، { علينا ننج المؤمنين } ، قرأ الكسائي وحفص ويعقوب ننجي بالتخفيف والآخرون بالتشديد ، ونجا وأنجى بمعنى واحد .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقالك { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } .
والجملة الكريمة عطف على محذوف ، والتقدير : تلك سنتنا في خلقنا نهلك الأمم المكذبة { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } الذين أرسلناهم لإِخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان ، الكاف في { كذلك } بمعنى : مثل ، وهى صفة لمصدر محذوف ، واسم الإِشارة يعود على الإِتجاه الذي تكفل الله به للرسل السابقين ولمن آمن بهم ولفظ { حقا } منصوب بفعل مقدر أى : حق ذلك علينا حقا أى : مثل ذلك الإِتجاء الذي تكلفن به لرسلنا ولمن آمن بهم . ننج المؤمنين بك - أيها الرسول الكريم - ، ونعذب المصرين على تكذيبك ، وهذا وعد أخذناه على ذاتنا فضلا منا وكرما .
{ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } وبذلك ترى الآيات الكريمة قد حضت الضالين على الاقتداء بقوم يونس - عليه السلام - لكى ينجوا من العذاب ، وذكرتهم بنفاذ إرادة الله وقدتره ، ودعتهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض ، وأخبرتهم بأن سنة الله ماضية في إنجاء المؤمنين ، وفى إهلاك المكذبين .
وبعد هذا الحديث المتنوع الذي زخرت به سورة يونس - عليه السلام - عن وحدانية الله وقدرته ، وعن صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وعن النفس الإِنسانية وأحوالها ، وعن يوم القيامة وأهوالها . .
ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب ، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب :
( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين ) . .
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه : أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر ، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب . .
هكذا كان - والقصص المروي في السورة شاهد - وهكذا يكون . . فليطمئن المؤمنون . . .
وقوله : { فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم ، { قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا }{[14442]} أي : ونهلك المكذبين بالرسل ، { كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ } [ أي ]{[14443]} حقا : أوجبه تعالى على نفسه الكريمة : كقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 12 ] كما جاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت{[14444]} غضبي " {[14445]}
وقوله { ننجي رسلنا } الآية ، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم ، فالتخويف على هذا أشد ، وكلهم قرأ «ننجّي » مشددة الجيم إلا الكسائي ، وحفصاً عن عاصم فإنهما قرأ «ننْجِي » بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقرأ عاصم في سورة الأنبياء في بعض ما روي عنه «نُجي » بضم النون وحذف الثانية وشد الجيم ، كأن النون أدغمت فيها ، وهي قراءة لا وجه لها ، ذكر ذلك الزجاج{[6236]} . وحكى أبو حاتم نحوها عن الأعمش ، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج » بجيم مطلقة دون ياء وكذلك قرأ الكسائي في سورة مريم { ثم ننْجِي الذين اتقوا }{[6237]} بسكون النون وتخفيف الجيم ، والباقون بفتح النون وشد الجيم ، والكاف في قوله { كذلك } يصح أن تكون في موضع رفع ، ويصح أن تكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف .
{ ثم ننجّي رسلنا } عطف على جملة : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا } لأن مثل تلك الأيام يومُ عذاب . ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله .
وجملة : { كذلك حقاً علينا ننجِّي المؤمنين } تذييل . والإشارة ب { كذلك } إلى الإنجاء المستفاد من { ثم ننجِّي } .
و { حقّاً علينا } جملة معترضة لأن المصدر بدل من الفعل ، أي حق ذلك علينا حقاً .
وجعله اللّهُ حقاً عليه تحقيقاً للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه .
وقرأ الجمهور { نُنَجّي المؤمنين } بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان { ننجي رسلنا } . وقرأ الكسائي ، وحفص عن عاصم { نُنْجي المؤمنين } بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء . فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن ، والمعنى واحد .
وكتب في المصحف { ننج المؤمنين } بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها للاتقاء الساكنيْن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا} معهم، {كذلك} يعني هكذا،
{حقا علينا ننج المؤمنين} في الآخرة من النار، وفي الدنيا بالظفر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجي هناك رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برسلنا الذين أهلكنا أممهم فأنجيناهم ومن آمن معهم من عذابنا حين حق على أممهم. "كذلكَ حَقّا عَلَيْنا نُنْجي المُؤْمِنِينَ "يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناهم والمؤمنين به معهم وأهلكنا أممهم، كذلك نفعل بك يا محمد وبالمؤمنين فننجيك وننجي المؤمنين بك حقّا علينا غير شكّ.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أنه إذا اراد إهلاك قوم استحقوا الهلاك نجى رسله من بينهم وخلصهم من العقاب، ويخلص مع الرسل المؤمنين الذين أقروا له بالوحدانية وللرسل بالتصديق... والنجاة مأخوذة من النجوة وهي الارتفاع عن الهلاك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {ننجي رسلنا...}، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم، فالتخويف على هذا أشد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله: {ثم ننجي} أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية {ألا إن أولياء الله} ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة {رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا {والذين آمنوا} أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله: {كذلك} أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم {حقاً علينا} أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم {ننج المؤمنين} أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً... أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول: هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي الحقوق {حقاً علينا} على ما لنا من العظمة {ننج المؤمنين} في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُواْ} هذا التعبير من أعجب إيجاز القرآن المعجز الذي انفرد به في العطف على محذوف، وهو ذكر شيء يدل دلالة واضحة على أمر عام كسنة اجتماعية تستنبط من قصة أو قصص واقعة، ثم يأتي بجملة معطوفة لا يصح عطفها على ما قبلها من الجمل، فيتبادر إلى الذهن وجوب عطفها على ذلك الأمر العام، بحرف العطف المناسب للمقام، بحيث يستغنى به عن ذكره، وتقديره هنا: تلك سنتنا في رسلنا مع قومهم: يبلغونهم الدعوة، ويقيمون عليهم الحجة، وينذرونهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن بعض ويصر الآخرون، فنهلك المكذبين، ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا بهم.
{كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} أي كذلك الإنجاء، ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المصرين على تكذيبك، وعدا حقا علينا لا نخلفه {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ولاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 77] وقد صدق عده كما قال.
قرأ الجمهور (ننجي رسلنا) بالتشديد من التنجية، إلا في رواية عن يعقوب بالتخفيف مختلف فيها. وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب (ننجي المؤمنين) بالتخفيف من الإنجاء، والباقون بالتشديد، والمعنى واحد، إلا أن التشديد يدل على المبالغة أو التكرار، وهو الأنسب في الأولى لكثرة الأقوام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فإنه -بحسب ما مع العبد من الإيمان- تحصل له النجاة من المكاره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب:
(ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا. كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين)..
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه: أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب..
هكذا كان -والقصص المروي في السورة شاهد- وهكذا يكون.. فليطمئن المؤمنون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم ننجّي رسلنا} عطف على جملة: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا} لأن مثل تلك الأيام يومُ عذاب. ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله.
وجملة: {كذلك حقاً علينا ننجِّي المؤمنين} تذييل. والإشارة ب {كذلك} إلى الإنجاء المستفاد من {ثم ننجِّي}.
و {حقّاً علينا} جملة معترضة لأن المصدر بدل من الفعل، أي حق ذلك علينا حقاً.
وجعله اللّهُ حقاً عليه تحقيقاً للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن أجل أن لا يتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح، تضيف الآية: إِننا إِذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة، نقوم بإنقاذ عبادنا الصالحين: (ثمّ ننجي رسلنا والذين آمنوا). ثمّ تقول في النهاية: إِنّ هذا ليس مختصاً بالأُمم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين، بل (كذلك حقّاً علينا ننج المؤمنين).