{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } قال عطاء عن ابن عباس : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى ، وهو قول علي والحسن . وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوءك فيهم " . وقال حرب بن شريح : سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : إنكم يا معشر أهل العراق تقولون : أرجى آية في القرآن : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }( الزمر-53 ) وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . قيل : ولسوف يعطيك ربك من الثواب . وقيل : من النصر والتمكين وكثرة المؤمنين ، { فترضى } .
وجئ بحرف الاستقبال فى قوله - تعالى - : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } ، لإفادة أن هذا العطاء مستمر غير مقطوع ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلَسَوْفَ يرضى } وحذف المفعول الثانى فى قوله : { يُعْطِيكَ } ، ليعم كل وجوه العطاء التى يحبها صلى الله عليه وسلم أى : ولسوف يعطيك ربك عطاء يرضيك رضاء تاما .
والتعبير بقوله { فترضى } ، ليعم كل وجوه العطاء التى يحبها الله صلى الله عليه وسلم أى : ولسوف يعطيك ربك عطاء يرضيك رضاء تاما .
والتعبير بقوله { فترضى } المشتمل على فاء التعقيب ، للإِشعار بأنه عطاء عاجل النفع ، وأنه سيأتى إليه صلى الله عليه وسلم فى وقت قريب ، وقد أنجز - سبحانه - وعده .
قال الجمل : وقوله - سبحانه - : { وَلَلآخِرَةُ } اللام فيه للابتداء مؤكدة لمضمون الجملة . وإنما قيد بقوله - تعالى - { لك } لأنها ليست خيرا لكل واحد . وقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ . . . } هذا وعد شامل لما أعطاه الله - تعالى - له من كمال النفس ، وظهور الأمر ، وإعلاء الدين . . واللام لام الابتداء ، والمبتدأ محذوف ، أى : ولأنت سوف يعطيك ربك ، وليست لام القسم ، لأنها لا تدخل على المضارع ، إلا مع نون التوكيد . .
وقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } أي : في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته ، وفيما أعدَّه له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، وطينه [ من ]{[30185]} مسك أذفر كما سيأتي .
وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي ، عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : عرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا ، فسر بذلك ، فأنزل الله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر ، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم . رواه ابن جرير{[30186]} من طريقه ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس : ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف .
وقال السدي ، عن ابن عباس : من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقال الحسن : يعني بذلك الشفاعة . وهكذا قال أبو جعفر الباقر .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا معاويةُ بن هشام ، عن علي بن صالح ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أهلُ بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } {[30187]} .
قال جمهور الناس : ذلك في الآخرة ، وقال بعضهم من أهل البيت هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى وأحد من أمته في النار ، وروي أنه عليه السلام لما نزلت قال : «إذاً لا أرضى وأحد من أمتي في النار » ، وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته في النار ، وقال ابن عباس أيضاً : رضاه أن الله تعالى وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم ، وقال بعض العلماء رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره ، وفي مصحف ابن مسعود : «ولسيعطيك ربك فترضى »
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ ولسوف يعطيك ربك } في الآخرة ، وهو الخير { فترضى } يعني حتى ترضى ، ثم ترضى ، ثم ترضى بما يعطيك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نِعَمه ، حتى ترضى... حدثني موسى بن سهل الرمليّ ، قال : حدثنا عمرو بن هاشم ، قال : سمعت الأوزاعيّ يحدّث ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي ، عن عليّ بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، قال : عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده ، كَفْرا كَفْرا ، فسرّ بذلك ، فأنزل الله "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَترْضَى" ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي لتعطى في الآخرة ما ترضى من الكرامة والشرف . وقال بعضهم : أي : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } في الدنيا ؛ الشرف والمنزلة والغلبة على الأعداء . ويحتمل : يعطيك في أمتك ما ترجو ، وتأمل من الشفاعة لهم ، وترضى . ويقول بعض الناس : إن أرجى آية هذه، حيث وعده أنه يعطيه ما يرضى ، ولا يرضى أن تكون أمته في النار . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
موعد شامل لما أعطاه الله في الدنيا من الفلج والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجاً ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم ، وبثّ عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام ، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين ، ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلاّ الله... فإن قلت : ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ؟ قلت : معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخّر ، لما في التأخير من المصلحة ...
قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى }... اتصاله بما تقدم من وجهين؛
( الأول ) : هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة : { خير له من الأولى } ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون، فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت ، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه.
( الوجه الثاني ) : كأنه تعالى لما قال : { وللآخرة خير لك من الأولى } فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك ، فقال : لأنه يعطيه كل ما يريده، وذلك مما لا تتسع الدنيا له ، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى ، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع ، وقد يمكن حمله على التعظيم ... وأما التعظيم، فالمروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس ، أن هذا هو الشفاعة في الأمة ... واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ، ويدل عليه وجوه؛
( أحدها ) : أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال : { استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة ، ومن طلب شيئا فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما يرضى بالإجابة ، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لا الرد ، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه، علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين. ( والثاني ) : وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك ، فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية.
( والثالث ) : الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول، فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة ...
هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة ، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه ... وههنا سؤالات :
السؤال الأول: لم لم يقل: يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضا؟ ( الجواب ) لوجوه :
( أحدها ) أنه المقصود وهم أتباع .
( وثانيها ) : أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك ، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك ، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء : نفسي نفسي ، أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي ، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي ، وأنت تقول : أمتي أمتي ، أي أبدأ بهم ، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم ...
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : { ولسوف } ولم لم يقل : وسيعطيك ربك ؟
( إحداها ) : أنه يدل على أنه ما قرب أجله ، بل يعيش بعد ذلك زمانا.
( وثانيها ) : أن المشركين لما قالوا : ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة ، فقال : { ما ودعك ربك وما قلى } ثم قال المشركون : سوف يموت محمد ، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } .
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال عِيَاضٌ : وهذه آيةٌ جامعةٌ لوجوهِ الكرامةِ وأنواعِ السعادةِ في الدارين ، انتهى ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ولسوف يعطيك } أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة { ربك } أي الذي لم يزل يحسن إليك بوعد الدنيا ووعد الآخرة { فترضى } أي فيتعقب على ذلك ويتسبب عنه رضاك . وهذا شامل لما منحه بعد كمال النفس من كمال العلم وظهور الأمر وإعلاء الدين وفتح البلاد ودينونة العباد ونقص ممالك الجبابرة ، وإنهاب كنوز الأكاسرة والقياصرة ، وإحلال الغنائم حتى كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ، وشامل لما ادخره له سبحانه وتعالى في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود ، والشفاعة العظمى .....
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه ، ويوالي عليك مننه ، ومنها توارد الوحي عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وسيظهر دينك على الأديان كلها ، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شؤون الناس جميعا . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك ، وإزاحة العقبات من طريقك ، وغلبة منهجك ، وظهور حقك . . وهي الأمور التي كانت تشغل باله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد . . والشماتة . . ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتعريف { ربك } بالإضافة دون اسم الله العَلَم لما يؤذن به لفظ ( رب ) من الرأفة واللطف ، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإِشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رَب إلى ضميره . وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من النصر والظَفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجاً وما فُتح على الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من أقطار الأرض شرقاً وغرباً .