مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَسَوۡفَ يُعۡطِيكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰٓ} (5)

قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين ( الأول ) : هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة : { خير له من الأولى } ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون . فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت ، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه ( الوجه الثاني ) : كأنه تعالى لما قال : { وللآخرة خير لك من الأولى } فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك ، فقال : لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له ، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى ، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع ، وقد يمكن حمله على التعظيم ، أما المنافع ، فقال ابن عباس : ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها ، وأما التعظيم فالمروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس ، أن هذا هو الشفاعة في الأمة ، يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال : إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ، ويدل عليه وجوه ( أحدها ) : أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال : { استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة ، ومن طلب شيئا فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما يرضى بالإجابة ، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لا الرد ، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه . علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين ( والثاني ) : وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك ، فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية ( والثالث ) : الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة ، وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد ، وعن الباقر ، أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت ، هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة ، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، و[ ما ] هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة ، واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : لم لم يقل : يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضا ؟ ( الجواب ) لوجوه : ( أحدها ) أنه المقصود وهم أتباع ( وثانيها ) : أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك ، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك ، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء : نفسي نفسي ، أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي ، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي ، وأنت تقول : أمتي أمتي ، أي أبدأ بهم ، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم ( وثالثها ) : أنك عاملتني معاملة حسنة ، فإنهم حين شجوا وجهك ، قلت : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة ، قلت : " اللهم املأ بطونهم نارا " فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك ، وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك ، فإن وجه الدين هو الصلاة ، فرجحت حقي على حقك ، لا جرم فضلتك ، فقلت من ترك الصلاة سنين ، أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره ، ومن آذى شعرة من شعراتك ، أو جزء من نعلك أكفره .

السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : { ولسوف } ولم لم يقل : وسيعطيك ربك ؟ ( الجواب ) : فيه فوائد ( إحداها ) : أنه يدل على أنه ما قرب أجله ، بل يعيش بعد ذلك زمانا ( وثانيها ) : أن المشركين لما قالوا : ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة ، فقال : { ما ودعك ربك وما قلى } ثم قال المشركون : سوف يموت محمد ، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } .

السؤال الثالث : كيف يقول الله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ؟ ( الجواب ) : هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه ، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا ، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات .

السؤال الرابع : ما هذه اللام الداخلة على سوف ؟ ( الجواب ) : قال صاحب «الكشاف » : هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم ، أو لام الابتداء ، ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد ، فبقي أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر ، فلابد من تقدير مبتدأ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك ، فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ؟ قلنا معناه : أن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة .