قوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } ، أي : على حكمه وقضائه ، ومسألته ، وقيل : عرضوا على ربهم .
قوله تعالى : { قال } ، لهم وقيل : تقول لهم الخزنة بأمر الله .
قوله تعالى : { أليس هذا بالحق } يعني : أليس هذا البعث والعذاب بالحق ؟
قوله تعالى : { قالوا بلى وربنا } ، إنه حق ، قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } في موقف آخر ، وفي القيامة مواقف . ففي موقف يقرون ، وفي موقف ينكرون .
ثم بين - سبحانه - حالهم عندما يقفون ليستمعوا إلى ما يوجهه إليهم ربهم من توبيخ وتقريع بسبب كفرهم فقال :
{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق } .
أى : قال لهم - سبحانه - أليس هذا البعث الذى تشاهدونه بأعينكم ثابتاً بالحق ؟ وهنا يجيبون خالقهم مصدقين لأن الواقع يحتم عليهم ذلك فيقولون - كما حكى القرآن عنهم - { بلى وَرَبِّنَا } أى : قالوا : بلى يا ربنا إنه للحق الذى لا شك فيه ، ولا باطل يحوم من حوله ، وأكدوا اعترافهم بالقسم شاهدين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين فى الدنيا .
وهنا يحكم الله فيهم بحكمه العادل فيقول : { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أى : إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم ، فانغمسوا فى العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله ، وإنكاركم لهذا اليوم العصيب .
والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه .
ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة . . أولا لأنها حقيقة . والله يقص الحق . وثانيا لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان : تصورا واعتقادا ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة ونظاما .
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق . . الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتز لها وترجف ؛ فتفتح نوافذها ، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها ، وتتحرك وتحيا ، وتتأهب للتلقي والاستجابة . . ذلك كله فضلا على أنها تمثل الحقيقة :
( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم . قال : أليس هذا بالحق ؟ قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
هذا مصير الذين قالوا : ( إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) . . وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين ؛ وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه ، لا يبرحون الموقف . وكأنما أخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب :
( قال : أليس هذا بالحق ؟ ) . .
وهو سؤال يخزي ويذيب ! ( قالوا : بلى وربنا ) . .
الآن . وهم موقوفون على ربهم . في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون ! وفي اختصار يناسب جلال الموقف ، ورهبة المشهد ، وهول المصير ، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير : قال : ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي ! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم ، وأخلدت إلى الأرض ، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل ! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب ؛ الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة ؛ الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة ! بذلك التصور الهابط الهزيل !
ثم قال { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } أي : أوقفوا بين يديه قال : { أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } أي : أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : بما{[10634]} كنتم تكذبون به ، فذوقوا اليوم مَسّه{[10635]} { أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [ الطور : 15 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هََذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : لَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء القائلين : ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ، إذْ وُقِفُوا يوم القيامة : أي حبسوا ، على رَبّهِمْ يعني : على حكم الله وقضائه فيهم . قالَ ألَيْسَ هَذَا بالحَقّ يقول : فقيل لهم : أليس هذا البعث والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقا ؟ فأجابوا فقالُوا بَلى والله إنه لحقّ . قالَ فَذُوقُوا العَذَابَ يقول : فقال الله تعالى ذكره لهم : فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون ، بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يقول : بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأخبر الله بمنزلتهم في الآخرة، فقال: {ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا}: عرضوا {على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} إنه الحق، {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} بالعذاب بأنه غير كائن..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، "إذْ وُقِفُوا "يوم القيامة: أي حبسوا، "على رَبّهِمْ" يعني: على حكم الله وقضائه فيهم. "قالَ ألَيْسَ هَذَا بالحَقّ" يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعث والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقا؟ فأجابوا فقالُوا بَلى والله إنه لحقّ. "قالَ فَذُوقُوا العَذَابَ" يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون، "بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} أي لربهم كقوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. وكقوله تعالى: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] أي للنصب...
وقوله تعالى: {قال أليس هذا بالحق} يحتمل قوله: {أليس هذا بالحق} أي البعث بعد الموت لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون أنه باطل. ويحتمل بما كانوا أوعدوا بالعذاب إن لم يؤمنوا، فكذبوا ذلك، فقال: أليس ما أوعدتم في الدنيا حقا، فأقروا، فقالوا {بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} في الدنيا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يا حسرة عليهم من موقف الخجل، محل مقاساة الوَجَل، وتذكر تقصير العمل! فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان الندم حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تُسْمَعُ منهم، ولا رحمة تنزل عليهم. وحين يقول لهم: أليس هذا بالحق؟ يُقِرُّونَ كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غَيْر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} مجاز على الحبس للتوبيخ والسؤال، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل: عرفوه حق التعريف {قَالَ} مردود على قول قائل قال: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: قال: {أَلَيْسَ هذا بالحق} وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم -لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء -: ما هو بحق وما هو إلا باطل {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قولُه: {إذ وقفوا على ربهم} مجازاً عن الحبس في مقام من مقامات الجلال بما اقتضاه إضافة الرب إليهم، أي الذي طال إحسانه إليهم وحلمه عنهم، فأظهر لهم ما أظهر في ذلك المقام من تبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم، وأطلعهم بما يقتضيه أداة الاستعلاء -على ما له سبحانه من صفات العظمة من الكبرياء والانتقام من التربية إذ لم يشكروا إحسانه في تربيتهم، وسياق الآية يقتضي أن يكون الجواب: لرأيتهم قد منعتهم الهيبة وعدم الناصر وشدة الوجل من الكلام، فكأن سائلاً قال: المقام يرشد إلى ذلك حتى كأنه مشاهد فهل يكلمهم الله لما يشعر به التعبير بوصف الربوبية؛ قيل: نعم، لكن كلام إنكار وإخزاء وإذلال {قال أليس هذا} أي الذي أتاكم به رسولي من أمر البعث وغيره مما ترونه الآن من دلائل كبريائي {بالحق} أي الأمر الثابت الكامل في الحقية الذي لا خيال فيه ولا سحر {قالوا} أي حين إيقافهم عليه، فكان ما أراد: {بلى}، وزادوا على ما أمروا به في الدنيا القسم فقالوا: {وربنا} أي الذي أحسن إلينا بأنواع الإحسان، وكأن كلامهم هذا منزل على حالات تنكشف لهم فيها أمور بعد أخرى، كل أمر أهول مما قبله، ويوم القيامة- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما -ذو ألوان: تارة لا يكلمهم الله، وتارة يكلمهم فيكذبون، وتارة يسألهم عن شيء فينكرون، فتشهد جوارحهم، وتارة يصدقون كهذا الموقف ويحلفون على الصدق. ولما أقروا قهراً بعد كشف الغطاء وفوات الإيمان بالغيب بما كانوا به يكذبون، تسبب عنه إهانتهم، فلذا قال مستأنفاً: {قال} أي الله مسبباً عن اعترافهم حيث لا ينفع، وتركهم في الدنيا حيث كان ينفع {فذوقوا العذاب} أي الذي كنتم به توعدون {بما كنتم تكفرون} أي بسبب دوامكم على ستر ما دلتكم عليه عقولكم من صدق رسولكم، ولا شك أن الكلام- وإن كان على هذه الصورة -فيه نوع إحسان، لأنه أهون من التعذيب مع الإعراض في مقام {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] ولذلك كان ذلك آخر المقامات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} تقدم تفسير مثل هذا التعبير قريبا. ووقفهم على ربهم عبارة عن وقف الملائكة إياهم في الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، وإمساكهم فيه إلى أن يحكم بما شاء فيهم، فهو من قبيل: وقوفا بها صحبي علي مطيهم أي يقفون مطيهم عندي وقوفا، ولا يشترط في هذا أن يكونوا في مكان أعلى من المكان الذي هو فيه. أو المعنى يحبسونها علي بإمساكها عندي. وإنما عدي الوقف والوقوف الذي بهذا المعنى بعلى – وكذا الحبس والإمساك الذي فسر به – لدلالته على معنى القصر... والذين تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب امتثالا لأمر الله تعالى، أو يكون أمرهم مقصورا على الله تعالى لا يتصرف فيه غيره.. وإنما أطلت في بيان كون استعمال وقف هنا متعديا بعلى ما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى: {وقفوا على النار} [الأنعام: 27] لأن المفسرين اضطربوا في التعدية هنا فحمل الكلام بعضهم على التمثيل وبعضهم على الكناية وبعضهم على مجاز الحذف أو على غيره من أنواع المجاز، وجعله بعضهم من الوقوف على الشيء معرفة وعلما، وجاء بعضهم بتأويلات أخرى لا حاجة إلى ذكرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم. قال: أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).. هذا مصير الذين قالوا: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).. وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين؛ وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه، لا يبرحون الموقف. وكأنما أخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب: (قال: أليس هذا بالحق؟).. وهو سؤال يخزي ويذيب! (قالوا: بلى وربنا).. الآن. وهم موقوفون على ربهم. في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون! وفي اختصار يناسب جلال الموقف، ورهبة المشهد، وهول المصير، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير: قال: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).. وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم، وأخلدت إلى الأرض، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب؛ الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة؛ الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة! بذلك التصور الهابط الهزيل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا ذكر إنكارهم البعث أعقبه بوصف حالهم حين يحشرون إلى الله، وهن حال البعث الذي أنكروه.
والقول في الخطاب وفي معنى {وقفوا} وفي جواب {لو} تقدّم في نظريتها آنفاً. وتعليق {على ربّهم} بِ {وقفوا} تمثيل لحضورهم المحشر عند البعث. شبّهت حالهم في الحضور للحساب بحال عبد جنى فقُبض عليه فوُقف بين يدي ربّه. وبذلك تظهر مزية التعبير بلفظ {ربّهم} دون اسم الجلالة.
وجملة: {قال أليس هذا بالحقّ} استئناف بياني، لأنّ قوله: {ولو ترى إذ وقفوا} قد آذن بمشهد عظيم مهول فكان من حقّ السامع أن يسأل: ماذا لقوا من ربّهم، فيجاب: {قال أليس هذا بالحقّ} الآية.
والإشارة إلى البعث الذي عاينوه وشاهدوه. والاستفهام تقريري دخل على نفي الأمر المقرّر به لاختبار مقدار إقرار المسؤول، فلذلك يُسأل عن نفي ما هو واقع لأنّه إن كان له مطمع في الإنكار تذرّع إليه بالنفي الواقع في سؤال المقرِّر. والمقصود: أهذا حقّ، فإنّهم كانوا يزعمونه باطلاً. ولذلك أجابوا بالحرف الموضوع لإبطال ما قبله وهو {بَلَى} فهو يُبطل النفي فهو إقرار بوقوع المنفي، أي بلى هو حقّ، وأكّدوا ذلك بالقسم تحقيقاً لاعترافهم للمعترف به لأنّه معلوم لله تعالى، أي نقِرّ ولا نشكّ فيه فلذلك نقسم عليه. وهذا من استعمال القسم لتأكيد لازم فائدة الخبر.
وفُصل {قال فذوقوا العذاب} على طريقة فصل المحاورات. والفاء للتفريع عن كلامهم، أو فاء فصيحة، أي إذ كان هذا الحقّ فذوقوا العذاب على كفركم، أي بالبعث. والباء سببية، و« ما» مصدرية، أي بسبب كفركم، أي بهذا. وذوْق العذاب استعارة لإحساسه، لأنّ الذوق أقوى الحواسّ المباشرة للجسم، فشبّه به إحساس الجلد.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(ولو ترى إذ وقفوا على النار) كانت في بيان ما يستقبلهم من عذاب مادي رهيب يقرع إحساسهم قرعا شديدا مزعجا وفي هذا الموضع (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) هي بيان عقاب معنوي توبيخي، وبيان كذبهم في الدنيا وكفرهم بآيات ربهم ولو ترى يا محمد أو لو ترى يا قارئ القرآن إذ وقفوا أي حبسوا مطلعين على تجلي ربهم وسلطانه وكمال عزته البارزة التي حاولوا إخفاءها في أنفسهم في الدنيا وإن لم تكن خفية في ذاتها لقد تجلى عليهم ربهم بسؤال المستنكر لحالهم في الدنيا، وبحجتهم في قولهم: (وما نحن بمبعوثين) (أليس بالحق) أي هذا البعث الذي تعاينونه وتشهدون أهواله ثابتا بالحق، فقوله (بالحق) متعلق بمحذوف أو نقول إن (الباء) زائدة ويكون المعنى أليس هذا البعث هو الحق الذي لا ريب فيه، وتكون (الباء) لتأكيد معنى الإنكار الذي هو بمعنى النفي، وقد دخل على نفى، ونفي النفي إثبات ولقد كانت إجابتهم مصدقين لأن الواقع يحملهم على التصديق والإذعان لما يدعو إليه رب العالمين بقولهم كما حكى ربهم (بلى) وبلى للنفي ما يكون بعد الاستفهام أي لنفى (ليس هذا بالحق) نفى ما تضمنته ليس النافية هو تصديق أنه الحق، وإذا كان ذلك ثابتا بحكم قولهم وعيانهم، فلا بد أن يتجلى الله تعالى عليه بذكر ما يستحقون فقال تعالت كلماته: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلمه محسين بها، فالذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بعد الانغماس فيه والأمر هنا أمر تكويني يحكى الواقع الحق، وقد يكون مع ذلك أمر قولي لا اختيار لهم فيه، بل إنه مجاب بالاضطرار و (الباء) هنا للسببية أي بسبب كفرهم بالبعث وإنكارهم له، (و الفاء) في قوله: (فذوقوا) فاء الإفصاح إي إذا كنتم تفترون أنه الحق فذوقوا عذابه بما أنكرتم. اللهم هبنا الإيمان بالغيب وامنحنا اليقين.
هم – إذن – قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا؛ لأن ما شاهدوه هول كبير، فما بالك إذا وقفوا على الله؟ إنه موقف مرعب. وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على النار؛ فالأولى هنا أن يحذف الجواب، حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى.. إنه ارتقاء في الهول. وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحق لهم: {أليس هذا بالحق}؟ إنهم يفاجئون بوجود إله يقول لهم بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار: {أليس هذا الحق}؟ وسبحانه وتعالى لا يستفهم منهم لكنه يقرر، وقد شاء أن يكون الإقرار منهم، فيقولون: (بلى) لأن الأمر لا يحتاج – إذن – إلى مكابرة. (وبلى) حرف يجعل النفي إثباتا. ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى لا يظن ظان أن هناك تلقينا للجواب. ويصدر حكم الحق: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون. وذوق العذاب ليس من صفة القهر والجبروت، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، لكن بسبب أنهم قادموا ما يوجب أن يعذبوا عليه:...