روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ قَالَ أَلَيۡسَ هَٰذَا بِٱلۡحَقِّۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (30)

{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة ، وقيل : الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضاً وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه ، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم ، وقيل : هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل : ما عرفناك حق معرفتك ، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه .

{ قَالَ } استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك ؟ فقيل : قال : الخ . وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلاً { أَلَيْسَ هذا } أي البعث وما يتبعه { بالحق } أي حقاً لا باطلاً كما زعمتم ، وقيل : الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء ، ولا دلالة في { فَذُوقُواْ } عند أرباب الذوق على ذلك ، والهمزة للتقريع على التكذيب { قَالُواْ } استئناف كما سبق { بلى } هو حق { وَرَبُّنَا } أكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال تيقنهم بحقيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعاً بأن ينفعهم وهيهات { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب } الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به ، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى ، ولعل هذا التوبيخ والتقريع كما قيل «إنما يقع بعدما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب » ، ويحتمل العكس وأمر الأمر سهل .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } [ الأنعام : 30 ] الآية قال بعض أهل التأويل : هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق ، والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول : لا يكون إلا كرهاً والثاني : يكون طوعاً ورغبة ، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } [ الأنعام : 52 ] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها . ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم .

ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ، ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت ، ومن وقف مع الصفات وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران . وليس هذا هو الوقوف عل الرب لأن فيه حجاب الأنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف . والمشرك موقوف أولاً على الرب فيحجب بالرد والطرد { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 77 ] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن { قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } [ الزمر : 72 ] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبداً فيكون وقفه على النار متأخراً عن وقفه على الرب تعالى معلولاً له كما قال تعالى : { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 70 ] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار . وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده . والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلاً بل يحاسب ويدخل الجنة . وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى . فتأمل فيه