ثم بين - سبحانه - المصير السيئ الذى انتهى إليه الكافرون فقال : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } .
أى : ورد الله - تعالى - بفضله وقدرته الذين كفروا عنكم - أيها المؤمنون - حالة كونهم متلبسين بغيظهم وحقدهم . دون أن ينالوا أى خير من إتيانهم إليكم ، بل رجعوا خائبين خاسرين .
فقوله { بِغَيْظِهِمْ } حال من الموصول ، والباء للملابسة ، وجملة { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } حال ثانية من الموصول أيضاً .
وقوله : { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بيان للمنة العظمى التى امتن بها - سبحانه - عليهم .
أى : وأغنى الله - تعالى - بفضله وإحسانه المؤمنين عن متاعب القتال وأهواله بأن أرسل على جنود الأحزاب ريحا شديدة ، وجنودا من عنده .
{ وَكَانَ الله } - تعالى - { قَوِيّاً } على إحداث كل أمر يريده { عَزِيزاً } أى : غالبا على كل شئ .
قال ابن كثير : وفى قوله { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش . وهكذا وقع بعدها . لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون فى بلادهم .
" قال محمد بن إسحق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم " فلم تغز قريش بعد ذلك المسلمين ، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذى يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله عليه مكة .
وروى الإِمام أحمد " عن سليمان بن صرد قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " " .
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية :
( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .
وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . وأثبت النص القراني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره . فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ؛ وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } .
يقول تعالى ذكره : ورَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا به وبرسوله من قُرَيش وغطفان بِغَيْظِهِمْ يقول : بكربهم وغمهم ، بفوتهم ما أمّلوا من الظفر ، وخيبتهم مما كانوا طَمِعوا فيه من الغَلَبة لَمْ ينَالوا خَيْرا يقول : لم يصيبوا من المسلمين مالاً ولا إسارا وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ بجنود من الملائكة والريح التي بعثها عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا الأحزاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا وذلك يوم أبي سفيان والأحزاب ، ردّ الله أبا سفيان وأصحابه بغيظهم لم ينالوا خيرا وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ بالجنود من عنده ، والريح التي بعث عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرا : أي قريش وغطفان .
حدثني الحسين بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، قال : حُبِسنا يوم الخندق عن الصلاة ، فلم نصلّ الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد العشاء بهويّ كفينا ، وأنزل الله : وكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ ، وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً ، فأقام الصلاة ، وصلى الظهر ، فأحسن صلاتها ، كما كان يصليها في وقتها ، ثم صلى العصر كذلك ، ثم صلى المغرب كذلك ، ثم صلى العشاء كذلك ، جعل لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف فإنْ خِفْتُمْ فِرِجالاً أوْ رُكْبانا .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : حُبسنا يوم الخندق ، فذكر نحوه .
وقوله : وكانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزا يقول : وكان الله قويا على فعل ما يشاء فعله بخلقه ، فينصر من شاء منهم على من شاء أن يخذله ، لا يغلبه غالب عزيزا يقول : هو شديد انتقامه ممن انتقم منه من أعدائه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانَ اللّهُ قَويّا عَزيزا : قويا في أمره ، عزيزا في نقمته .
عدد الله تعالى في هذه الآية نعمه على المؤمنين في هزم الأحزاب وأن الله تعالى ردهم { بغيظهم } لم يشفوا منه شيئاً ولا نالوا مراداً ، { وكفى } كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الأحزاب ، وروي أن المراد ب { المؤمنين } هنا علي بن أبي طالب وقوم معه عنوا للقتال وبرزوا ودعوا إليه وقتل علي رجلاً من المشركين اسمه عمرو بن عبد ود ، فكفاهم الله تعالى مداومة ذلك وعودته بأن هزم الأحزاب بالريح والملائكة وصنع ذلك بقوته وعزته .
قال أبو سعيد الخدري : حبسنا يوم الخندق فلم نصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء حتى كان بعد هوى من الليل كفينا وأنزل الله تعالى ، { وكفى الله المؤمنين القتال } ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام وصلى الظهر فأحسنها ثم كذلك حتى صلى كل صلاة بإقامة .