قوله تعالى : { قل } يا محمد لكفار مكة ، { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } ، عبر عن الخلق بالإنزال ، لأن ما في الأرض من خير ، فمما أنزل من السماء من رزق ، من زرع وضرع ، { فجعلتم منه حراما وحلالا } ، هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام . قال الضحاك : هو قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الإنعام-136 ] .
قوله تعالى : { قل آلله أذن لكم } ، في هذا التحريم والتحليل ، { أم } بل ، { على الله تفترون } ، وهو قولهم : والله أمرنا بها .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد أيضا على أولئك الذين أحلوا وحرموا على حسب أهوائهم دون أن يأذن الله لهم بذلك فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } أي : قل لهم يا محمد - أيضا - أخبروني أيها المبدلون لشرع اله على حسب أهوائكم : إن الله - تعالى - قد أفاض عليكم ألوانا من الرزق الحلال فجئتم أنتم ، وقسمتم هذا الرزق الحلال ، فجعلتم منه حلالا وجعلتم منه حراما .
وقد حكى الله - تعالى - فعلهم هذا في آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا }
قال الإِمام ابن كثير : " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل كقوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً . . . } الآيات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شبعة عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا رث الهيئة فقال : هل لك مال ؟ قلت : نعم . قال : من أي المال ؟ قال : قلت : من كل المال . . من الإِبل والرقيق والخيل والغنم . فقال : إذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال : هل تنتج إبلك صحاحا آذانها ، فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول : هذه بحر . وتشق جلودها وتقول ؛ هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك . قال : نعم . قال : فإن ما آتاك الله لك حل . ساعد الله أشد من ساعدك . وموسى الله أحد من موساك " .
وقوله : { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } استفهام قصد به التوبيخ والزجر أي : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والزجر : إن الله وحده هو الذي يملك التحليل والتحريم ، فهل هو - سبحانه - أذن لكم في ذلك ، أو إنما أنتم الذين حللتم وحرمتم على حسب أهوائكم . لأنه لو أذن لكم في ذلك لبينه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال صاحب الكشاف : " وقوله : { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم ، وقل . تكرير للتوكيد . والمعنى أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار وأم منقطعة ، بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء .
ثم قال : وكفى بهذه الآية زاجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله " .
وفي ظل هذا الحديث عن فضل اللّه ورحمته ، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور ، يتعرض السياق للجاهلية ، وهي تزاول حياتها العملية ، لا وفق ما جاء من عند اللّه ؛ ولكن وفق أهواء البشر ، واعتدائهم على خصائص اللّه سبحانه ، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم اللّه :
( قل : أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ! قل : آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ? وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ) . .
قل : ماذا ترون في رزق اللّه الذي أنزله إليكم ? - وكل ما جاء من عند اللّه في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى - ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم ، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه ، فإذا أنتم - من عند أنفسكم ودون إذن من اللّه لكم - تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً . والتحريم والتحليل تشريع . والتشريع حاكمية . والحاكمية ربوبية . وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم :
( قل : آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ? ) .
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين . . ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .
إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود ؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر ، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم " المسلمين ! " . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم " المسلمين ! " - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق ؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم ! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان !
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم " المسلمين " - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه . أو كانوا يقولون عنه : شريعة اللّه !
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه . . وذلك في قوله تعالى : ( وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ) . . فهم كانوا يقولون : إن اللّه يشاء هذا ، ولا يشاء هذا . . افتراء على اللّه . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم " مسلمين " يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة اللّه !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين : أرَأيْتُمْ أيها الناس ما أنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ يقول : ما خلق الله لكم من الرزق فخوّلكموه ، وذلك ما تتغذّون به من الأطعمة فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً يقول : فحللتم بعض ذلك لأنفسكم ، وحرّمتم بعضه عليها وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرّمونه من حروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم ، كما وصفهم الله به فقال : وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فَقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا . ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك ، مما قدمناه فيما مضى من كتابنا هذا . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد آللّهُ أذِنَ لَكُمْ بأن تحرّموا ما حرّمتم منه أمْ على اللّهِ تَفْتَرونَ : أي تقولون الباطل وتكذبون ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها ، وهو قول الله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً وهو هذا ، فأنزل الله تعالى : قُلْ مَنْ حَرّم زِينَةَ اللّهِ التي أخْرَجَ لِعِبادِهِ . . . . الآية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ . . . إلى قوله : أمْ على اللّهِ تَفْتَرُونَ قال : هم أهل الشرك .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً قال : الحرث والأنعام .
قال ابن جريج : قال مجاهد : البحائر والسيب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً قال : في البحيرة والسائبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً . . . الآية ، يقول : كلّ رزق لم أحرّم حرّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم آللّهُ أذِنَ لَكُمْ فيما حرّمتم من ذلك أَمْ عَلىَ الله تَفْتَرُونَ ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً . فقرأ حتى بلغ : أمْ على اللّهِ تَفْتَرُونَ . وقرأ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا . وقرأ : وَقالُوا هَذِه أنْعامٌ وحَرْثُ حِجْرٌ . . . حتى بلغ : لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْها . فقال : هذا قوله : جعل لهم رزقا ، فجعلوا منه حراما وحلالاً ، وحرّموا بعضه وأحَلّوا بعضه . وقرأ : ثَمانِيَةَ أزْوَاج منَ الضّأْن اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ أيّ هذين حرّم على هؤلاء الذين يقولون وأحلّ لهؤلاء ؟ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصّاكُمْ اللّهُ بِهَذَا . . . إلى آخر الاَيات .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ أرأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامَا وَحَلالاً هو الذي قال الله : وَجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا . . . إلى قوله : ساءَ ما يَحْكمونَ .
{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } جعل الرزق منزلا لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها ، وما في موضع النصب ب { أنزل } أو ب { أرأيتم } فإنه بمعنى أخبروني ، ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال : { فجعلتم منه حراما وحلالا } مثل : { هذه أنعام وحرث حجر } [ وعند قوله تعالى ] { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } { قل ءآلله أذن لكم } في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه . { أم على الله تفترون } في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب { أرأيتم } وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار ، و { أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله .