معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

قوله تعالى : { لكيلا تأسوا } تحزنوا ، { على ما فاتكم } من الدنيا ، { ولا تفرحوا بما آتاكم } قرأ أبو عمرو بقصر الألف ، لقوله { فاتكم } فجعل الفعل له ، وقرأ الآخرون { آتاكم } بمد الألف ، أي : أعطاكم . قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً ، { والله لا يحب كل مختال } متكبر بما أوتي من الدنيا ، { فخور } يفخر به على الناس . قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ، ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

ثم بين - سبحانه - الحكم التى من أجلها فعل ذلك فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } .

فاللام فى قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ . . . } متعلقة بحذوف . وقوله : { تَأْسَوْاْ } من الأسى ، وهو الحزن والضيق الشديد . يقال : أسى فلان على كذا - كفرح - فهو يأسى أسى ، إذا حزن واغتم لما حدث ، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن شعيب - عليه السلام - :

{ فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } أى : فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم فى كتاب من قبل خلقكم ، وأخبرناكم بذلك ، لكى لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدة بكم إلى الجزع ، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكى لا تفرحوا بما أعطاكم الله - تعالى - من نعم عظمى وكثيرة . . . . فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله - تعالى - فيما خلقت له . . . فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ . . . هانت عليه المصائب ، واطمأنت نفسه لما قضاه الله - تعالى - وكان عند الشدائد صبورا ، وعند المسرات شكورا .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى : أنكم إذا علمتم أن كل شىء مقدر مكتوب عند الله ، قل أساكم على الفائت ، وفرحكم على الآتى ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة ، لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال ، لم يعظم فرحه عند نيله .

فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها ، أن لا يحزن ولا يفرح ؟

قلت : المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله - تعالى - ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغى الملهى عن الشكر .

فأما الحزن الذى لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام ، والسرور بنعمة الله ، والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس بهما .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .

أى : والله - تعالى - لا يحب أحداً من شأنه الاختيال بما آتاه - سبحانه - من نعم دون أن يشكره - تعالى - عليها ، ومن شأنه - أيضاً - التفاخر والتباهى على الناس بما عنده من أموال وأولاد . . . وإنما يحب الله - تعالى - من كان من عباده متواضعا حليما شاكرا لخالقه - عز وجل - .

فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد سكبتا فى قلب المؤمن ، كل معانى الثقة والرضا بقضاء الله فى كل الأحوال .

وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التى شرعها الله - تعالى - لأن ما سجله الله فى كتابه علينا قبل أن يخلقنا ، لا علم لنا به ، وإنما علمه مرده إليه وحده - تعالى - .

وهو - سبحانه - لا يحاسبنا على ما نجهله ، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به ، أو نهانا عنه ، عن طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

وكما سجل - سبحانه - أحوالنا قبل أن يخلقنا ، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها ، وبين لنا فى كثير من آياته ، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعملنا .

وعندما قال بعض الصحابة للنبى - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا نتكل على ما قدره الله علينا ؟

أجابهم بقوله : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

16

وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى . قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها . فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعا وتذهب معه حسرات عند الضراء . ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء :

( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ) . .

فاتساع أفق النظر ، والتعامل مع الوجود الكبير ، وتصور الأزل والأبد ، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله ، الثابتة في تصميم هذا الكون . . كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتا ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة . حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني .

إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود . ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير . فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به ، وتمر بغيره ، والأرض كلها . . ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود . . وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق . لازم بعضها لبعض . وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون . . حين يستقر هذا في تصوره وشعوره ، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء . فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله ، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله . ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى . رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون !

وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون . فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله ، وذكره بهذه وبتلك ، والاعتدال في الفرح والحزن . قال عكرمة - رضي الله عنه - " ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا " . . وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء . .

والله لا يحب كل مختال فخور .