قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالا : " لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه . فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } إلى { ولا هم يحلون لهن } " قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } إلى قوله : { غفور رحيم } قال عروة : فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً يكلمها به ، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله . قال ابن عباس : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم -وقال مقاتل : هو صيفي ابن الراهب- في طلبها ، وكان كافراً ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } من دار الكفر إلى دار الإسلام ، { فامتحنوهن } قال ابن عباس : امتحانها : أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله . قال : فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردها ، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن . { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ما أحل الله مؤمنة لكافر ، { وآتوهم } يعني أزواجهن الكفار ، { ما أنفقوا } عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن ، أباح الله نكاحهن للمسلمين ، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ، { ولا تمسكوا } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب : بالتشديد ، والآخرون : بالتخفيف ، من الإمساك { بعصم الكوافر } والعصم : جمع عصمة ، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب . والكوافر : جمع الكافرة ، نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما . قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم ، وهما على شركهما ، وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة ابن عبيد الله ، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ، ففرق الإسلام بينهما ، فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية . قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ، ثم أتى المدينة فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . { واسألوا } أيها المؤمنون ، { ما أنفقتم } أي : إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ، { وليسألوا } يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر ممن تزوجها منكم ، { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء المؤمنات ، اللاتى تركن أزواجهن الكفار ، ورغبن فى الهجرة إلى دار السلام فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا . . . . } .
قال الإمام القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ، واقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين - سبحانه - أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركى قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافرا . . . فقال : يا محمد ، اردد على امرأتى ، فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : " جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - ردها علينا للشرط ، فقال : " كان الشرط فى الرجال لا فى النساء " فأنزل الله هذه الآية " ، والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } ، من دار الكفر الى دار الإيمان ، وراغبات فى فراق الكافرين ، والبقاء معكم .
{ فامتحنوهن } أي : فاختبروهن اختبارا يغلب معه الظن بأنهن صادقات في هجرتهن وفي إيمانهن ، وفي موافقة قلوبهن لألسنتهن .
وقد ذكر ابن جرير فى كيفية امتحانهن صيغا منها : ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانت المرأة إذا أتت رسول الله - صلى الله عليها وسلم - حلفها بأنها ما خرجت بغضا لزوجها ، ولا رغبة فى الانتقال من أرض إلى أرض ، ولا التماسا لدنيا ، وإنما خرجت حبا لله ولرسوله .
وجملة : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } معترضة لبيان أن معرفة خفايا القلوب ، مردها إلى الله - تعالى - وحده .
قال صاحب الكشاف : قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أى : منكم ، لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ودرستم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به .
والمراد بالعلم فى قوله - تعالى - : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } الظن الغالب ، أي : فإن غلب على ظنكم بعد امتحانهن أنهن مؤمنات صادقات فى إيمانهن ، فأبقوهن عندكم ، ولا ترجعوهن إلى أزواجهن أو إلى أهلهن من الكفار .
وسمى الظن القوي علما للإيذان بأنه كالعلم فى وجوب العمل بمقتضاه ، وإنما رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجال الذين جاءوه مؤمنين بعد صلح الحديبية ، ولم يرد النساء المؤمنات ، لأن شرط الرد كان فى الرجال ولم يكن فى النساء - كما سبق أن ذكرنا نقلا عن القرطبى - ، ولأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة فى الرد ما يخشى على المرأة ، من إصابة المشرك إياها ، وتخويفها ، وإكراهها على الردة .
قال بعض العلماء : قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء فى معاهدة صلح الحديبية ، والتى كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه إلى المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين ، لا يردونه على المسلمين ، فأخرجت الآية النساء من المعاهدة ، وأبقت الرجال ، من باب تخصيص العموم .
وتخصيص السنن بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنن ، أمر معلوم .
ومن أمثلة تخصيص السنة بالكتاب ، قوله : - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبين من حى فهو ميت " أى : فهو محرم ، فقد جاء تخصيص هذا العموم بقوله - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } أى : ليس محرما ، ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } فقد جاء تخصيص هذا العموم بحديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " .
وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت فى حق الرجال فقط .
والذي يظهر - والله أعلم - أنها مخصصة لمعاهدة الحديبية ، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن - كما قال الإمام ابن كثير .
وقوله - سبحانه - : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تعليل للنهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى دار الكفر ، أو إلى أزواجهن الكفار .
أى : لا ترجعوا - أيها المؤمنون - النساء المؤمنات المهاجرات إليكم من أرض الكفر إلى أزواجهن الكافرين ، فإن هؤلاء المؤمنات صرن بسبب إيمانهن لا يصح ارتباطهن بأزواجهن الكفار ، كما لا يصح لهؤلاء الكافرين الارتباط بالنساء المؤمنات .
فالجملة الكريمة المقصود بها تأكيد النهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى أرض الكفر ، ووجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر فى جميع الأحوال .
قال ابن كثير : هذه الآية هى التى حرمت المسلمات على المشركين وقد كان ذلك جائزا فى أول الإسلام ، أن يتزوج المشرك المؤمنة . . .
وقوله - تعالى - : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } بيان لمظهر من مظاهر عدالة الإسلام فى أحكامه . والخطاب لولاة الأمور . وهذا الإيتاء إنما هو للأزواج المعاهدين ، أما إذا كانوا حزبيين فلا يعطون شيئا .
أي : وسلموا إلى المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ، ما دفعوه لهن من مهور ، قال القرطبى : قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } : أمر الله - تعالى - إذا أُمسِكَتْ المرأة المسلمة ، أن يرد إلى زوجها المشرك ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما مُنِع من أهله ، بحرمة الإسلام ، أمر- سبحانه - برد المال إليه ، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فالمراد بقوله - تعالى - { مَّآ أَنفَقُواْ } : ما دفعه المشركون لأزواجهم المؤمنات .
وعبر عن هذه المهور بالنفقة ، للإشعار بأن هؤلاء الزوجات المؤمنات ، أصبحت لا صلة لهن بأزواجهن المشركين .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } تكريم لهؤلاء النساء المشركين ، وبعد استبرائكم لأرحامهن ، وعليكم أن تدفعوا لهن مهورهن كاملة غير منقوصة .
ونص على دف المهر لهن - مع أنه أمر معلوم - لكى لا يتوهم متوهم ، أن رد المهر إلى الزوج الكافر ، يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين ، إذ المهر المردود للكفار ، لا يقوم مقام المهر الذى يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر .
والمراد بالإيتاء : ما يشمل الدفع العاجل ، والتزام الدفع فى المستقبل .
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين عن إبقاء الزوجات المشركات فى عصمتهم فقال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
والعصم : جمع عصمة ، والمراد بها هنا : عقد النكاح الذي يربط بين الزوج والزوجة ، والكوافر : جمع كافرة ، كضوارب جمع ضاربة .
أي : ولا يصح لكم - أيها المؤمنون - أن تبقوا فى عصمتكم ، زوجاتكم اللائي آثرن الكفر على الإيمان ، وأبين الهجرة معكم من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وقد بادر المسلمون بعد نزول هذه الآية بتطليق زوجاتهم الكافرات فطلق عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - امرأتين له كانتا مشركتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة .
وهذه الجلمة الكريمة تأكيد لقوله - تعالى - قبل ذلك : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر من الأحكام التى تدل على عدالة الإسلام فى تشريعاته فقال : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أي : كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين ، مهور نسائهم المسلمات اللائى فررن إليكم ، وتركن أزواجهن الكفار ، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائى انفصلتم عنهن لكفرهن ، ولحقن بهؤلاء المشركين ، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائى انفصلن عنهم وهاجرن إليكم .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام ، إنما هى من الله - تعالى - العليم بأحوال النفوس ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، فقال : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
أي : ذلكم الذى ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هى أحكام من الله - تعالى - فاتبعوها ، فهو - سبحانه - صاحب الحكم المطلق بينكم ، وهو - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، حكيم فى كل تصرفاته وتشريعاته .
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !
قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .
( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .
فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?
( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :
( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .