وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله فى هذا الكون ، انتقلت السورة إلى تهديد المشركين ، وإنذارهم بأن عاقبتهم ستكون كعاقبة الظالمين الذين سبقوهم ، فقال - تعالى - :
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً . . . } .
ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات والتى قبلها روايات تتعلق بما بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين بعض المشركين ، منها ما ذكره محمد بن كعب القرظى قال : " حدثت أن عتبة بن ربيعة قال يوما لقريش - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها .
فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة فقال : " يا محمد ، يابن أخى ، إنك منا حيث قد علمت من السلطة - أى من الشرف - فى العشيرة وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها .
ثم قال : إن كنت - يا بن أخى - تريد مالا أعطيناك من المال حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد ملكا جعلناك ملكا علينا . . وإن كان الذى يأتيك رئيا تراه - أى ترى بعض الجن - طلبنا لك الطب حتى تبرأ .
فلما فرغ عتبة قال صلى الله عليه وسلم : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم . قال : " فاسمع منى " قال : افعل فتلا عليه النبى صلى الله عليه وسلم من أول سورة " فصلت " " .
- وفى رواية أنه لما بلغ قوله - تعالى - : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ . . } قال له عتبة : حسبك ما عندك غير هذا .
ثم عاد عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : لقد جاءكم عتبة بوجه غير الذى ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا له : ماوراءك يا أبا الوليد ؟
فقال : لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم قولا ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش ، أطيعونى واجعلوها لى ، خَلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ .
فقالوا : لقد سحرك محمد صلى الله عليه وسلم فقال : " هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدا لكم "
فقوله - تعالى - : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } تهديد لهؤلاء المشركين ، بعد أن وضح الحق لهم فى أكمل صورة . .
والصاعقة - كما يقول ابن جرير - : كل أمر هائل رآه الرائى أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل ، يكون مصعوقا . .
والمراد بها هنا : العذاب الشديد الذى أنزله الله - تعالى - على قوم عاد وثمود فصعقهم وأهلكهم .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين لقد أقمت لكم الأدلة الناصعة على وحدانية الله - تعالى - وعلى عظيم قدرته ، وعلى أنى رسول من عنده ، وصادق فيما أبلغه عنه .
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن دعوتك ، ولجوا فى طغيانهم ، واستمروا فى كفرهم وعنادهم .
{ فَقُلْ } لهم على سبيل التحذير : لقد { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } .
وحض - سبحانه - عاداً وثمود بالذكر ، لأن مشركى قريش يعرفون ما جرى لهؤلاء الظالمين . إذ قوم عاد كانوا بالأحقاف - أى بالمكان المرتفع الكثير الرمال - فى جنوب الجزيرة العربية ورسولهم هو هود - عليه السلام - .
وأما ثمود فهم قوم صالح - عليه السلام - ، ومساكنهم كانت بشمال الجزيرة العربية ، ومازالت آثارهم باقية ، وأهل مكة كانوا يمرون عليها فى طريقهم إلى بلاد الشام للتجارة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبّنَا لأنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيّنتها لهم يا محمد ، ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقرّوا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله غيره ، فقل لهم : أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود .
وقد بيّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة : كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته . وقيل في هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةِ عادٍ وَثمُودَ قال : يقول : أنذرتكم وقيعة عاد وثمود ، قال : عذاب مثل عذاب عاد وثمود .
{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } .
بعد أن قَرَعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسرباً إلى النفوس بعدها في أَن الله منفرد بالإِلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها . وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزَّل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى ، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإيمان بالقرآن ، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة { فأعرض أكْثَرُهُم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } [ فصلت : 4 ] الخ ، فلذلك جعل استمرارهم على الإِعراض بعد تلك الحجج أمراً مفروضاً كما يُفْرَض المُحال ، فجيء في جانبه بحرف ( إنْ ) الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] في قراءة من قرأ بكسر همزة ( إنْ ) .
فمعنى { فَإنْ أعْرَضُوا } إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها ، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله : { ياأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله } [ النساء : 136 ] .
والإِنذار : التخويف ، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإِعراض خشيةَ أن يحلّ بهم ما حل بأولئك ، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سَنن واحد ، وليس هو وعيداً لأن قريشاً لم تصبهم صاعقة مثلُ صاعقة عاد وثمود ، وإن كانوا قد ساوَوْهما في التكذيب والإِعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم : { لو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] وأمهل الله قريشاً حتى آمن كثير منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص .
وحقيقة الصاعقة : نار تخرج مع البرق تُحرق ما تصيبه ، وتقدم ذكرها في قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } في سورة البقرة ( 19 ) . وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاككِ ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عادٍ وثمود ، وعادٌ لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمودُ أهلكوا بالصاعقة فقد استُعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه ، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصدَ الإِيجاز ، وليقع الإِجمَال ثم التفصيل بعد بقوله : { فأمَّا عَادٌ } [ فصلت : 15 ] إلى قوله : { بما كانوا يكسبون } [ فصلت : 17 ] .
و { إذ } ظرف للماضي ، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات . روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبةَ بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاففِ قومه فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم { حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيم } حتى بلغ { فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صاعقة } [ فصلت : 1 13 ] الآية ، فأمسَكَ عتبةُ على فم النبي وقال له : « ناشدتُك الله والرحم »
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.