{ وإذ زيّن لهم الشيطان } مقدر باذكر . { أعمالهم } في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم . { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } مقالة نفسانية والمعنى : أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين ، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا . { فلما تراءت الفئتان } أي تلاقى الفريقان . { نكص على عقبيه } رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم . { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ، وقيل : لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : { إني أخاف الله } إني أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر . { والله شديد العقاب } يجوز أن يكون من كلامه وان يكون مستأنفا .
{ وإذ زين } عطف على { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } [ الأنفال : 44 ] الآية . وما بينهما اعتراض ، رُتّب نظمه على أسلوبه العجيب ؛ ليقع هذا الظرف عقب تلك الجمل المعتَرضة ، فيكون له إتمام المناسبة بحكاية خروجهم وأحوالِه ، فإنّه من عجيب صنع الله فيما عرض للمشركين من الأحوال في خروجهم إلى بدر ، ممّا كان فيه سبب نصر المسلمين ، وليقع قوله : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } [ الأنفال : 47 ] عَقِب أمر المسلمين بما ينبغي لهم عند اللقاء ، ليجمع لهم بين الأمر بما ينبغي والتحذير ممّا لا ينبغي ، وترك التشبه بمن لا يرتضَى ، فيتمّ هذا الأسلوب البديع المحكمُ الانتظامِ .
وأشارت هاته الآية إلى أمر عجيب كان من أسباب خِذلان المشركين إذ صرف الله عن المسلمين كيداً لهم حين وسوس الشيطان لسراقَةَ بننِ مالك بن جعْشُم الكناني أن يجيء في جيش من قومه بني كنانة لنصر المشركين حين خرجوا للدفاع عن عِيرهم ، فألقى الله في رُوع سراقة من الخوف ، ما أوجب انخزاله وجيشه عن نصر المشركين ، وأفسد الله كيد الشيطان بما قذفه الله في نفس سُراقة من الخوف وذلك أنّ قريشاً لمّا أجمعوا أمرهم على السير إلى إنقاذ العِير ذكروا ما كان بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد أن يثبّطهم عن الخروج ، فلقيهم في مسيرهم سُراقة بن مالك في جند معه راية وقال لهم : لا غالب لكم اليوم ، وإنّي مجيركم من كنانة ، فقوي عزم قريش على المسير ، فلمّا أمعنوا السير وتقارَبَ المشركون من منازل جيش المسلمين ، ورأى سُراقة الجيشين ، نكص سُراقة بمن معه وانطلقوا ، فقال له الحارث بن هشام ، أخُو أبي جهل : « إلى أينَ أتخذلنا في هذه الحال » فقال سراقة « إني أرى ما لا ترون » فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير ، حتّى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر ، وكان خروج سُراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان ، لئلا ينثني قريش عن الخروج ، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتمّ نصر المسلمين ، وكان خاطر رجوع سراقة خاطراً ملَكياً ساقه الله إليه ؛ لأنّ سراقة لم يزل يتردّد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة ، حين شاهد معجزة سَوْخ قوائم فرسه في الأرض ، وأخذِه الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة ، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح .
وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم ، يجوز أن يكون إسناداً مجازياً ، وإنّما المزيّن لهم سُراقة بإغراء الشيطان ، بما سوّل إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم ، وأن لا يخشوا غَدْر كنانة بهم ، وقيل تمثّل الشّيطان للمشركين في صورة سراقة ، وليس تمثّل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما روي ذلك عن قول ابن عبّاس ، وتأويلُ ذلك : أنّ ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان ، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنّه فعل فعل الشيطان كما يقولون : فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسناداً حقيقاً أي زيّن لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته ، وكذلك إسناد قوله : { لا غالب لكم } إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سُراقة المتأثر بوسوسة الشيطان .
وكذلك قوله : { إني أرى ما لا ترون } .
وقوله : { إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه ، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنّهم يسمعونه ، فقال قوله هذا ، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضرّوه بإذن الله وقوله : { إني أخاف الله } بيان لقوله : { إني أرى ما لا ترون } أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله . وإن كان ذلك كلّه من قول سراقة فهو إعلان لهم بردّ جواره إيّاهم لئلا يكون خائناً لهم ، لأنّ العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه ، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم ردّ جواره من أبي بكر ، ومنه قوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآءٍ إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] فالمعنى : إنّي بريء من جواركم ، ولذلك قال له الحارث بن هشام : « إلى أين أتخذلنا » فيكون قد اقتصر على تأمينهم من غدر قومه بني كنانة . وتكون الرؤية علمية ومفعولها الثاني محذوفاً اقتصاراً .
وأمّا قوله : { إني أخاف الله والله شديد العقاب } فعلى احتمال أن يكون الإسناد إلى الشيطان حقيقة فالمراد من خوف الله توقع أن يصيبه الله بضرّ ، من نحوِ الرجم بالشهب ، وإن كان مجازاً عقلياً وأنّ حقيقته قول سُراقة فلعلّ سراقة قال قولاً في نفسه ، لأنّه كان عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدلّ عليه المشركين ، فلعلّه تذكّر ذلك ورأى أنّ فيما وعد المشركين من الإعانة ضرباً من خيانة العهد فخاف سوء عاقبة الخيانة .
و« التزيين » إظهار الشيء زيْناً ، أي حسناٍ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة [ الأنعام : 108 ] ، وفي قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة [ البقرة : 212 ] . والمعنى : أنّه أراهم حسناً ما يعملونه من الخروج إلى إنقاذ العير ، ثم من إزماع السير إلى بدر .
و{ تراءت } مفاعلة من الرؤية ، أي رأت كلتا الفئتين الأخرى .
و { نكص على عقبيه } رجع من حيث جاء . وعن مؤرج السدوسي : أنّ نكص رجع بلغة سُليم ، ومصدره النكوص وهو من باب رجع .
وقوله : { على عقبيه } مؤكّد لمعنى نكص إذ النكوص لا يكون إلاّ على العقبين ، لأنّه الرجوع إلى الوراء كقولهم : رجع القهقرى ، ونظيره قوله تعالى في سورة [ المؤمنين : 66 ] : { فكنتم على أعقابكم تنكصون }
و { على } مفيدة للتمكّن من السير بالعقبين . والعقبان : تثنية العقب ، وهو مؤخّر الرجل ، وقد تقدّم في قوله : { ونرد على أعقابنا } في سورة [ الأنعام : 71 ] .
والمقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر لأنّ عقب الرجل أخسّ القوائم لملاقاته الغبار والأوساخ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس}، وذلك أنه بلغهم أن العير قد نجت، فأرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، من بنى مدلج بن الحارث، فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل، فتأمن عيركم، ويسير ضعيفكم، {وإني جار لكم} على بنى كنانة، أنكم لا تمرون بحي منهم إلا أمدكم بالخيل والسلاح والرجال، فأطاعوه ومضوا إلى بدر لما أراد الله من هلاكهم، فلما التقوا نزلت ملائكة ببدر مددا للمؤمنين، عليهم جبريل، عليه السلام، ولما رأى إبليس ذلك، نكص على عقبيه، يقول: استأخر وراءه.
فذلك قوله: {فلما تراءت الفئتان} فئة المشركين، {نكص على عقبيه}، يقول: استأخر وراءه، وعلم أنه لا طاقة له بالملائكة، فأخذ الحارث بن هشام بيده، فقال: يا سراقة، على هذا الحال تخذلنا؟ {وقال} إبليس: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون}، فقال الحارث: والله ما نرى إلا خفافيش يثرب، فقال إبليس: {إني أخاف الله والله شديد العقاب}: وكذب عدو الله ما كان به الخوف، ولكن خذلهم عند الشدة، فقال الحارث لإبليس وهو في صورة سراقة: فهلا كان هذا أمس، فدفع إبليس في صدر الحارث، فوقع الحارث، وذهب إبليس هاربا، فلما انهزم المشركون، قالوا: انهزم بالناس سراقة، وهو بعض الصف، فلما بلغ سراقة سار إلى مكة فقال: بلغني أنكم تزعمون بأني انهزمت بالناس فوالذي يحلف به ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، قالوا له: ما أتيتنا يوم كذا وكذا، فحلف بالله لهم أنه لم يفعل، فلما أسلموا علموا أنما ذلك الشيطان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أَعمالَهُمْ" وحين زين لهم الشيطان أعمالهم.
وكان تزيينه ذلك لهم كما [روي]... عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر يعني من الحرب فكاد ذلك أن يثبطهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا.
... قال ابن إسحاق، في قوله: "وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِب لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وإنّي جارٌ لَكُمْ "فذكر استدراج إبليس إياهم وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب التي كانت بينهم. يقول الله: "فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ" ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوّهم، "نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إني أرَى ما لا ترون" وصدق عدوّ الله أنه رأى ما لا يرون. وقال: "إنّي أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ"، فأوردهم ثم أسلمهم... وكذب والله عدوّ الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوّة له ولا منعة له، وتلك عادة عدوّ الله لمن أطاعه واستعاذ به، حتى إذا التقى الحقّ والباطل أسلمهم شرّ مسلم وتبرأ منهم عند ذلك...
فتأويل الكلام: وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم أيها المؤمنون لحربكم وقتالكم، وحّسن ذلك لهم، وحثهم عليكم وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا، وإني جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فتغيركم أجيركم وأمنعكم منهم، ولا تخافوهم، واجعلوا جدّكم وبأسكم على محمد وأصحابه. "فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ" يقول: فما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض "نَكَصَ على عَقِبَيْهِ" يقول: رجع القهقرى على قفاه هاربا... وقال للمشركين "إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ" يعني: أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم "إنّي أخَافُ" عقاب الله، وكذب عدوّ الله. "والله شَدِيدُ العِقَابِ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{و} اذكر {إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...وقوله {على عقبيه} يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله {إني بريء منكم} هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله {إني أرى ما لا ترون} يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرَّ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم: لا غالب لكم اليوم من الناس لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا، وإني مع هذا أو الحال إني جار لكم، قال البيضاوي في تفسيره: وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين. اه.
{فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} أي فلما قرب كل من الفريقين المقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه نكص أي رجع القهقرى وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين (أي مؤخري الرجلين) وأخطأ من قال من المفسرين إن المراد بالترائي التلاقي، والمراد إنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته وتركه إياهم وشأنهم وهو {وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة {والله شديد العقاب} يجوز أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفا.
تفسير الآية بوسوسة الشيطان وإغوائه للمشركين وتغريره بهم قبل تقابل الصفوف وترائي الزحوف وبتخليه عنهم بعد ذلك رواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن البصري، وخرجه علماء البيان من المفسرين كالزمخشري والبيضاوي بنحو مما ذكرنا وهو لا يخلو من تكلف من الجمل الأخيرة إلا أن يقال إنه لما نكص على عقبيه تبرأ منهم وقال ما قال في نفسه لا لهم، ومثل هذا الخطاب لا يتوقف على سماع المخاطبين له حتى في خطاب الناس بعضهم لبعض ومثله قوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله} [الحشر:16] قال ابن عباس لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم، وإني جار لكم. فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة (نكص على عقبيه) قال رجع مدبرا وقال (إني أرى مالا ترون) الآية. ومثله قال الحسن.
أقول: معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم كما تقدم شرحه في تفسير آية 12 {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الخ فلما تراءت الفئتان وأوشك أن يتلاحما فر الشيطان بجنوده من بين المشركين لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين وهما ضدان لا يجتمعان ولو اجتمعوا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما، فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ونحن -على منهجنا في هذه الظلال- لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر. فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته. ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض..
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم؛ وأنه بعد ذلك -لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر- (نكص على عقبيه وقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب).. فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، ولم يوف بعهده معهم..
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم. والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث..