{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة . وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة . { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود . والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة . { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه . { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا .
هذا خطاب لليهود والنصارى ، و { لما معكم } معناه من شرع وملة ، لا لما كان معهم من مبدل ومغير ، و «الطامس » : الدائر المغير الأعلام ، كما قال ذو الرمة : [ البسيط ]
من كل نضّاخَةِ الذّفرى إذا عَرِقَتْ . . . عُرْضَتُها طامسُ الأعلامِ مجهولُ{[4093]}
ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه : أعمى مطموس ، وقالت طائفة : «طمس الوجوه » هنا : أن تعفى أثر الحواس فيها ، وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس ، فيكون أرد على «الأدبار » في هذا الموضع بالمعنى ، أي خلوه من الحواس دبراً لكونه عامراً بها ، وقال ابن عباس وعطية العوفي : «طمس الوجوه » أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشى القهقرى ، وحكى الطبري عن فرقة : أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر ، فذلك هو الرد على الدبر ، ورد على هذا القول الطبري ، وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم } فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته ، فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي ، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك : ذلك تجوز ، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر ، وهو الرد على الأدبار ، وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها : إخراجهم منها ، والرد على الأدبار : هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً ، و { أصحاب السبت } : هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد ، حسبما تقدم ، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة ، قاله قتادة والحسن والسدي : وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور ، دال على جنسها ، لا واحد الأوامر ، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا ، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( 11 ) إذ قال : « فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت ، وفَاتَ قولُ لَيْت ، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة ، متَأبِّطاً لِهِرَاوة ، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون » الخ ، لذلك جيء بقوله : { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية عقب ما تقدّم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ آل عمران : 23 ] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه .
وجيء بالصلتين في قوله : { بما نزلنا } وقوله : « بما معكم » دون الإسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : { كمثَل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد ، ومعنى : { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " . وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه .
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها .
وقوله : { فنردّها على أدبارها } عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمسُ والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازاً وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجرُ أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة .
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازاً بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معاً ، والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .
وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .
و { أصحاب السبت } هم الذين في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقد تقدّم في سورة البقرة .