أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

{ واستعينوا بالصبر والصلاة } متصل بما قبله ، كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك ، والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجاح والفرج توكلا على الله ، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة ، وتصفية النفس . والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها ، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ، من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النية بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الحق ، وقراءة القرآن ، والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . ويجوز أن يراد بها الدعاء .

{ وإنها } : أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها ، لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر . أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها .

{ لكبيرة } لثقيلة شاقة كقوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } .

{ إلا على الخاشعين } أي المخبتين ، والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة ، والخضوع اللين والانقياد ، ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( 45 )

وقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر( {[554]} ) والصلاة } قال مقاتل : «معناه على طلب الآخرة » .

وقال غيره : المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله ، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب ، وعلى مصائب الدهر أيضاً( {[555]} ) ، ومنه الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة( {[556]} ) ، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم ، وهو في سفر ، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته ، وهو يقرأ( {[557]} ) { واستعينوا بالصبر والصلاة } .

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع . ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة .

وقال قوم : «الصبر » على بابه( {[558]} ) ، { والصلاة } الدعاء ، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله }( {[559]} ) [ الأنفال : 45 ] لأن الثبات هو الصبر ، وذكر الله هو الدعاء .

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة } على أي شيء يعود الضمير ؟ فقيل على { الصلاة }( {[560]} ) ، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله { واستعينوا } ، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة .

وقالت فرقة : على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذا ضعف ، لأنه لا دليل له من الآية عليه .

وقيل : يعود الضمير على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا أضعف من الذي قبله .

و «كبيرة » معناه ثقيلة شاقة( {[561]} ) ، والخاشعون المتواضعون المخبتون ، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع .


[554]:- قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا، أو بضعا وتسعين، وهو واجب باتفاق الأمة، وقد يكون من الكمال المستحب، وذلك أن النجاح والنصر لا يأتيان إلا على أساس الصبر والالتجاء إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء.
[555]:- الآية الكريمة تقبل كل هذه المعاني. فالألف واللام الداخلة على الصبر هي للشمول والعموم، كما أن الصلاة يراد بها ما يعم الفريضة والنافلة.
[556]:- رواه الإمام أحمد، وأبو داود بلفظ: "كان إذا حزبه أمر صلى"، ورواه (ط) بلفظ: "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"، وذكره المؤلف بلفظ: "إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة" وكربه بمعنى حزبه، أي أهمه وأقلقه. وانظر دعاء الكرب من كتاب الدعوات. وروى الترمذي في جامعه عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
[557]:- رواه (ط) في تفسيره، والبيهقي في شعب الإيمان.
[558]:- وليس بمعنى الصوم، كما قال مجاهد، وترجمة ما أشار إليه أن الصبر يفسر بتفسيرين بمعناه المتعارف، وبمعنى الصوم، ومن ثم قيل لشهر الصوم: شهر الصبر، والصلاة كذلك فقيل الشرعية، وقيل اللغوية، والكلمة صالحة للجميع.
[559]:- من الآية 45 من سورة الأنفال.
[560]:- هذا أقوى وأولى، لأن ضمير الغيبة يعود إلى أقرب مذكور. ولأن الصلاة عبادة، ومن أكبر العون على الثبات في الأمر. ولأنها تكبر وتصعب على النفوس، ومن أجل هذا اختاره الإمام ابن جرير رحمه الله.
[561]:- جعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر، واستثنى الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة لأجل ما وصفهم به من الخوف والرجاء، وذلك ما تضمنه قوله تعالى: [الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم] فإن الخوف والرجاء يسهلان كل صعب. والمشقة في الصلاة تدخل على المكلف من جهة شدة التكليف في حد ذاته، ومن جهة المداومة عليه، وإن كان خفيفا في نفسه، وفي مقدمة الخاشعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كانت قرة عينه في الصلاة، حتى يستريح إليها من تعب الدنيا، حتى قال: (أرحنا بها يا بلال)، كما رواه الدارقطني في العلل.