الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

قوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ } هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر ، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل . وأصلُ " استعينوا " اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه . " وبالصبر " متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها ، و " استعان " يتعدَّى بنفسِه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسينَ بالصبر ، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ : استَعَنْتُ [ الله واستعنْتُ بالله ] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب . والصبرُ : الحَبْسُ على المكروه ، ومنه : " قُتِل فلانٌ صبراً " ، قال :

فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً *** فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ

قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } إنَّ واسمها وخبرُها ، والضميرُ في " إنها " قيل : يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان ، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ ، وهو نظيرُ قولِه : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ ، لأنَّ العطف ب " أو " فيجبُ الإِفرادُ ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ . وقيل : يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو : { هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . وقيل : على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ ، وقيل : هو عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ ، وهذا ليسَ بشيء . وقيل : حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه ، وتقديرُه : وإنه لكبيرٌ ، نحو قوله :

إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ *** وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً

قوله : { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } استثناءٌ مفرَّعٌ ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ ، أي : لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء ، ف " على الخاشعين " متعلَّقٌ ب " كبيرة " نحو : " كَبُر عليَّ هذا " أي : عَظُم وشَقَّ . والخشوعُ : الخُضوع ، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة ، ومنه " الخُشْعَةُ " للرَّمْلَةِ المتطامنةِ ، وفي الحديث : " كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ " أي : كانت الأرضُ لينةً ، وقال النابغة :

رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه *** ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ

أي : عليه أثرُ الذلَّ ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع ، فقال : الخُضُوع في البدنِ خاصةً ، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه .