فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

وقوله : { واستعينوا بالصبر } الصبر في اللغة : الحبس ، وصبرت نفسي على الشيء : حبستها . ومنه قول عنترة :

فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً *** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبَان تَطلَّعُ

والمراد هنا : استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات وقيل : الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة . واستدل هذا القائل بقوله تعالى : { وَأمر أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] ، وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ، ونافلة . واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } فقيل : إنه راجع إلى الصلاة ، وإن كان المتقدم هو الصبر ، والصلاة ، فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما . كما قال تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه ، ومنه قول الشاعر :

إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَر الأس *** ودَ ما لم يُعاضَ كان جنونا

ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب ؛ لأن الشعر الأسود داخل فيه ، وقيل : إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها ؛ لأن الصبر هو عليها ، كما قيل سابقاً ، وقيل : إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها ، لكن لما كانت آكد ، وأعم تكليفاً ، وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها ، ومنه قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } [ التوبة : 34 ] كذا قيل . وقيل : إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة ، ومثل ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً ، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض . والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة ، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً ، وقيل إن المراد الصبر والصلاة ، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } [ المؤمنون : 50 ] أي : ابن مريم آية وأمه آية . ومنه قول الشاعر :

ومن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه *** فإني وَقَيّارُ بها لغريبُ

وقال آخر :

لكل هَمٍّ من الهموم سَعَة *** والصُّبْح والمساء لا فلاح مَعَه

وقيل : رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة .

وقيل : رجع إلى المصدر المفهوم من قوله : { واستعينوا } وهو الاستعانة . وقيل : رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل . والكبيرة التي يكبر أمرها ، ويتعاظم شأنها على حاملها ؛ لما يجده عند تحملها ، والقيام بها من المشقة ، ومنه : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] . والخاشع : هو المتواضع ، والخشوع : التواضع . قال في الكشاف : والخشوع : الإخبات والتطامن ، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة ، وأما الخضوع : فاللين والانقياد ، ومنه خضعت بقولها : إذا ليَّنَتْه . انتهى . وقال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذلّ والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى ، ومكان خاشع : لا يهتدى إليه ، وخشعت الأصوات ، أي : سكنت ، وخشع ببصره : إذا غضه ، والخشعة : قطعة من الأرض رخوة . وقال سفيان الثوري : سألت الأعمش عن الخشوع ، فقال : يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس ، ولا تعرف الخشوع ؟ ! ليس الخشوع بأكل الخشن ، ولبس الخشن ، وتطأطؤ الرأس ، لكن الخشوع أن ترى الشريف ، والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك . انتهى . وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته : إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون ، وتواضع . واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة ، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة ، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور ، والخضوع ؛ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر ، وتوفر الجزاء ، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب ، تسهل عليهم تلك المتاعب ، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب ، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة ، وراحة عندهم محضة ، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف ، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم :

ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

/خ46