اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ} (45)

قوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر ، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل .

وأصل " اسْتَعِينُوا " : " اسْتَعونُوا " ففعل فيه ما فعل في " نَسْتَعِين " وقد تقدم تحقيقه ومعناه . و " بالصبر " متعلّق به ، والباء للاستعانة أو للسّببية ، والمُسْتَعَان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليها ، واستعان يتعدّى بنفسه نحو : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : مُلْتَبِسِينَ بالصبر .

والظَّاهر أنه يتعدّى بنفسه وبالباء ، تقول : استعنت الله واستعنت بالله ، وقد تقدم أن السِّين للطلب .

والصّبر : الحبس على المكروه ؛ ومنه : " قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً " ؛ قال : [ الوافر ]

454 فَصَبْراً في مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً *** فَمَا نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ

و " المَصْبُورة " التي نهي عنها في الحديث هي المَحْبُوسة على الموت ، وهي المجثمة . والصبر المأمور به هو الصَّبر على الطَّاعة ، وعن المخالفة ، وإذا صبر عن المَعَاصي فقد صبر على الطَّاعة .

قال النحاسي : " ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر إنما يقال : صابر على كذا " . ويرده قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] ثم قال : { الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } [ البقرة : 156 ] الآية .

فصل في فضل الصلاة

خص الصلاة بالذكر من بين سائر العِبَادات تنويهاً بذكرها .

وكان عليه الصلاة والسَّلام " إذا حَزَبَهُ أمر فَزَعَ إلى الصَّلاة "  .

ومنه ما روي عن عبد الله بن عَبَّاسِ أنه نُعي إليه أخوه قثم وقيل بنت له وهو في سَفَرٍ فاسْتَرجع وقال : عَوْرَةٌ سَتَرَها الله ، ومُؤْنَةٌ كَفَاها الله ، وأجْرٌ ساقه الله ، ثم تَنَحَّى عن الطريق وصَلَّى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } .

فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية .

وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللُّغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ } [ الأنفال : 45 ] ؛ لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء .

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصَّوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصَّبْرِ ، فجاء الصَّوم والصَّلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصِّيَام يمنع من الشَّهَوَات ، ويزهد في الدنيا ، والصَّلاة تنهى عن الفَحْشَاء والمُنْكَرِ ، وتخشع ، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة .

وإنما قدم الصَّبر على الصلاة ؛ لأن تأثير الصَّبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصَّلاة في حصول ما ينبغي .

وقد وصف الله تعالى نفسه بالصَّبْرِ كما في حديث أبو موسى عن النبي صلى الله عليه سلم قال : " ليس أَحَدٌ أو ليس شيء أَصْبَرَ على أَذًى سمعه من اللَّه تعالى إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليُعَافِيهمْ ويَرْزُقُهُمْ "  أخرجه البُخَاري .

قال العلماء : وَصْفُ الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحِلْمِ ، ومعنى وصفه تعالى بالحِلْمِ هو تأخير العقوبة عن مستحقِّيها ، ووصْفُهُ تعالى بالصَّبْرِ لم يرد في التنزيل ، وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السُّنة على الحِلْمِ ، قاله " ابن فورك " وغيره .

وجاء في أسمائه " الصبور " للمبالغة في الحِلْمِ عمن عَصَاه .

قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } إن واسمها وخبرها ، والضَّمير في " إنها " قيل : يعود على " الصلاة " ، وإن تقدم شيئان ؛ لأنها أغلب منه وأهم ، وهو نظير قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] أعاد الضمير على التِّجَارة ؛ لأنها أهم وأغلب ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأن العطف ب " أو " فيجب الإفراد ، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشَّيئين ، فهو نظيرها من هذه الجهة .

وقيل : يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .

وقيل : على العبادة المَدْلُول عليها بالصَّبر والصلاة ، وقيل : هو عائد على الصبر والصَّلاة ، وإن كان بلفظ المفرد ، وهذا ليس بشيء .

وقيل : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ؛ وتقديره : وإنه لكبيرٌ ؛ نحو قوله : [ الخفيف ]

455 إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْ *** وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونا

ولم يقل : " يُعَاصيا " ردّ إلى الشباب ؛ لأن الشعر داخل فيه ، وكذا الصَّبر لما كان داخلاً في الصلاة عاد عليها كما قال : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ولم يقل : يرضوهما ؛ لأن رضا الرسول داخلٌ في رِضَا الله عَزّ وجلّ .

وقيل : ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما ، لكن حذف اختصاراً ، كقوله :

{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، ولم يقل : آيتين ، وقال الشاعر : [ الطويل ]

456 فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ *** فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

أراد : " لَغَرِيبَانِ " .

وقيل : على إجابة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ، لأنَّ الصبر والصَّلاة مما كان يدعو إليه ، وقيل : على الكَعْبَةِ ؛ لأن الأمر بالصَّلاة إنما هو إليها .

قوله : " لَكَبِيرَةٌ " : لشاقّة ثقيلة من قولك : كَبُرَ هذا عليَّ ؛ قال تعالى :

{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] .

و { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } استثناء مُفَرّع ، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتاً ، لأنه في قوة النفي ، أي : لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء .

و " عَلَى الخَاشِعِين " متعلّق ب " كبيرة " نحو : " كَبُرَ عليّ هذا " أي : عظم وشق .

فإن قيل : إن كانت ثقيلةً على هؤلاء سهلةً على الخاشعين ، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشعين أقلّ ، وهذا باطل .

فالجواب : ليس المراد أن الذي يلحقهم من التَّعب أكثر مما يلحق الخاشع ، وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارِحَهُ وقَلْبَهُ وسمعه وبصره ، ولا يغفل عن تدبُّر ما يأتي من الذِّكر ، والتذلُّل والخضوع ، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حَسْرَةٍ وغَمّ ، وإذا ذكر الوَعْدَ فكمثل ذلك ، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثِّقْلُ عليه بفعل صلاته أعظم ، وإنما المراد بقوله هاهنا لثقيلة على من لم يَخْشَعْ من حيث لا يعتقد في فعلها ثواباً ، ولا في تركها عقاباً ، فيصعب عليه فعلها ؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطَّبْعِ .

و " الخشوع " : الخضوع ، وأصله : اللِّينُ والسُّهولة ، ومنه " الخُشْعَةُ " للرَّمْلَةِ ، وقيل : قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث " كَانَتْ خُشْعَةً على المَاءِ ثم دُحِيَتْ بَعْدُ " أي : كانت الأرض لَيِّنَةً .

وقال النابغة : [ الطويل ]

457 رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأْياً أُبَيِّنُهُ *** ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ

أي : عليه أثر الذُّل .

وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع ، فقال : الخضوع في البدن خاصّة ، والخشوع في البَدَن والصّوت والبَصَرِ ، فهو أعم منه .