أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ} (17)

{ إذ يتلقى المتلقيان } مقدر باذكر أو متعلق ب { أقرب } ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنة لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية ، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد . { عن اليمين وعن الشمال قعيد } أي { عن اليمين } قعيد { وعن الشمال قعيد } ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله :

فإني وقيار بها لغريب *** . . .

وقد يطلق الفعل للواحد والمتعدد كقوله تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ} (17)

وأما قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان } فقال المفسرون العامل في : { إذ } ، { أقرب } ، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلاً مضمراً تقديره : اذكر { إذ يتلقى المتلقيان } ، ويحسن هذا المعنى ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك ، فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع ، فمنها { إذ يتلقى المتلقيان } ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس ، و { المتلقيان } : الملكان الموكلان بكل إنسان : ملك اليمين الذي يكتب الحسنات ، وملك الشمال الذي يكتب السيئات . قال الحسن : الحفظة : أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل .

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد ذلك الحديث ، «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث بكامله{[10526]} . ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال ، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري .

و { قعيد } معناه : قاعد ، وقال قوم هو بمنزلة أكيل ، فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون : أراد قعوداً فجعل الواحد موضع الجنس ، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، وقال مجاهد : { قعيد } : رصد ومذهب سيبويه أن التقدير عن اليمين قعيد ، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر [ كثير عزة ] : [ الطويل ]

وعزة ممطول معنّى غريمها . . . {[10527]}

ومثله قول الفرزدق : [ الكامل ]

إني ضمنت لمن أتاني ما جنى . . . وأبى وكان وكنت غير غدور{[10528]}

وهذه الأمثلة كثيرة ، ومذهب المبرد : أن التقدير عن اليمين { قعيد } وعن الشمال فأخر { قعيد } عن مكانه ومذهب الفراء أن لفظ { قعيد } يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر .


[10526]:أخرجه البخاري في المواقيت والتوحيد، ومسلم في المساجد، والنسائي في الصلاة، ومالك في السفر، وأحمد في مسنده(2-257)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو اعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون). واللفظ للبخاري.
[10527]:هذا عجز بيت قاله كثير من قصيدة له، والبيت بتمامه: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول مُعنى غريمها وقضى: أدى ما عليه من الدين لصاحبه، ووفى: أعطاه حقه كاملا وافيا تاما، والغريم: الدائن، وممطول: لم يأخذ حقه بل تأجل موعد الوفاء به مرة بعد أخرى، والمُعنى: المُتعب الذي كُلف ما يشق عليه او الأسير، يقول: إن صاحب كل دين أخذ حقه كاملا إلا غريم عزة وهو أنا، فلم أزل محروما مُتبعا لا انال إلا الوعود بعد الوعود، والشاهد الذي يقصده ابن عطية هو قول كثير:"غريمها" فقد تنازع فيه كل من (ممطول) و(معنى)، وهو يريد هنا أن الثاني وهو (معنى) هو الذي عمل في (غريمها)، واكتفى بذكره عن ذكره مع الأول وهو (ممطول)،على أن بين النحويين خلاف طويل هنا، ويمكن الرجوع إليه في كتب النحو، وفي البيت شاهد آخر في الموضوع ذاته، وهو في الشطر الأول لأن(قضى) تطلب (غريمه) مفعولا، وكذلك (وفى) تطلبه، والخلاف بين النحويين في أيهما أحق بالعمل مذكور في كتب النحو.
[10528]:بيت الفرزدق هذا من شواهد النحويين أيضا في باب التنازع، فإن (كان)و(كنت) كل منهما تطلب الخبر وهو "غير غدور"، وأصل الكلام: فكان غير غدور، وكنت غير غدور، فحذف أحد الخبرين اكتفاء بدلالة الآخر عليه، وعند البصريين-وابن عطية على مذهبهم- أن الخبر الموجود هو خبر الثاني، أما خبر الأول فقد حذف لدلالة الثاني عليه، وقد استشهد بهذا البيت الطبري والقرطبي، وهو مذكور في (معاني القرآن) للفراء، والكتاب لسيبويه، ومع كل هذا فهو غير موجود في الديوان.