تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ} (17)

الآيتان 17 و18 وقوله تعالى : { إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } أي اذكر تلقّي المتلقِّيَين ، أو احفظ تلقّي المتقّيَين ، وهما الملكان المسلّطان على أعمالك وأقوالك ، إذ يتلقّيان منك أعمالك وأقوالك ، ويحفظان عليك ، ويكتبان .

يذكر هذا [ ويخبر أن عليه ]{[19751]} حافظا ورقيبا ، وإن كان هو تعالى حافظا لجميع [ أفعاله وأقواله ]{[19752]} عالما به فحفظ الملائكة وعدم ذلك بمنزلة في حق الله تعالى .

لكن يُخرّج الأمر للملائكة بحفظ أعماله{[19753]} وكتابة ذلك على وجوه من الحكمة :

أحدها : ليكون{[19754]} على حذرٍ أبدا مما [ يقول ، ويفعل ]{[19755]} ما يكون في الشاهد من علم أن عليه حافظا ورقيبا في أمر يكون أبدا على حذر وخوف من ذلك الأمر ، وذلك أذكر له ، وأدعى إلى الانتهاء عن ذلك . فعلى ذلك إذا علم العبد أن عليه حفيظا ، يكتب ذلك عليه ، وأنه يكلّف تلاوة ذلك المكتوب بين يدي الله تعالى يستحيي{[19756]} من ذلك أشد الاستحياء ، ويكون{[19757]} ذلك أزجر له ، وأبلغ في المنع .

وإلا لكان{[19758]} إحصاء ذلك على الله تعالى مع الكتاب وغير الكتاب سواء ؛ إذ هو عالم بذاته لا بالأسباب ، وهو تأويل [ قوله تعالى ]{[19759]}ك { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] والله أعلم .

والثاني : من الحكمة امتحان الملائكة بحفظ أعمال بني آدم وأقوالهم وكتابه ذلك ، فيمتحنُهم لذلك ، ويأمرهم به ، ولله أن يمتحن الملائكة : من شاء منهم بالتسبيح والتعظيم ، ومن شاء منهم بالركوع ، ومن شاء [ منهم ]{[19760]} بحمل العرش والكرسي ، ومن شاء [ منهم ]{[19761]} بحفظ بني آدم ، ومن شاء منهم بسوق السحاب وإنزال المطر مما في ذلك منافع بني آدم .

ويكون ذلك كله بحق العبادة ليُعلم أن من امتحن منهم بالركوع والسجود والتسبيح والتكبير والتهليل لم يمتحنهم لمنافع ترجع إليه في ذلك . ولكن يمتحنهم بمِحن بما شاء وفي ما شاء ، ويكون ذلك كله عبادة ، وإن اختلفت أنواعه .

فعلى ذلك أمره إياهم بحفظ أعمالهم وأقوالهم وكتابتها ، والله أعلم .

والمحنة بحفظ تلك الأعمال والأصوات وكتابتها أشد من محنة غيرهم من الملائكة بالركوع والسجود والقيام أو التكبير أو التهليل ونحو ذلك ، ومن محنة بني آدم من إقامة العبادات والامتناع عن المحرّمات ونحوها ، إذ لو اجتمع الخلائق على معرفة كيفية عمل واحد ما قدروا عليه . فدلّ أن هذا التأويل مُحتمل .

والثالث : وهو أن الله تعالى أخبره{[19762]} بكتابة المَلَكين [ أعمالَه وبقعودهما ]{[19763]} عن اليمين والشمال من غير أن رأى أحد من البشر إياهما{[19764]} ولا رأى كتابتهم ، ولا سمع صوت كتابتهم ، وقد أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم وكتابة ذلك كله ، وأقدرهم على رؤيتنا ، ولم يُقدرنا على رؤيتهم ، وهم أجسام [ غير ]{[19765]} مرئية ليعلموا بذلك قدرة الله تعالى على ما شاء من الفعل وألا يقدّروا قوة كل خلق الله تعالى بقوة أنفسهم ولا رؤية غيرهم برؤية أنفسهم ، وأن قوة الرؤية تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص ؛ فإن الملائكة يروننا ، ولا نراهم في الدنيا ، وإن كانوا أجساما [ غير ]{[19766]} مرئية فيرى{[19767]} بعضهم بعضا{[19768]} .

ثم أخبره{[19769]} ، وقال : { ونُخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } [ الإسراء : 13 ] أخبر أنه يرى ذلك الكتاب في الآخرة ، وإن كان لا يراه في الدنيا ، وكذا يرى الملائكة في الآخرة ؛ وهذا لأن هذه البنية لا تحتمل أشياء لضعف فيها ولحجاب يكون في ذلك في الدنيا .

ثم تحتمل أن تكون في الآخرة أقوى في احتمال ذلك ، فتُبصَر في الآخرة .

وفي هذا ردّ قول المعتزلة في إنكارهم رؤية الله تعالى أنه لو كان يرى لرُئي في كل مكان على ما تُرى الملائكة في الآخرة دون الدنيا /526-ب/ ونحو ذلك . فعلى ذلك رؤية الله تعالى .

ثم قراءة العامة : { إذ يتلقّى المُتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه : إذ يتلقّى المتلقّيان عنه عن اليمين وعن الشمال قعيد .

فعلى قراءته يُخرّج تأويل الآية على وجه واحد ؛ أي يؤخذ الملكان عن ابن آدم ما [ فعل ، وقال ، وعلى ]{[19770]} قراءة العامة يخرّج على وجهين :

أحدهما : أن يأخذ الملكان عنه ما أدّى إليهما من قول أو فعل .

والثاني : أن يتلقّى أحد الملكين عن الآخر ما ألقى إليه ذلك المَلَك على ما رُوي عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال ، وإذا عمل العبد سيئة قال له صاحب اليمين : أمسك فيُمسِك عنه مبلغ ساعات ، فإن استغفر الله لم يكتبها عليه ، وإن لم يستغفر كتبا سيئة واحدة ) [ الطبراني في الكبير 7787 ] .

ويجوز أن يكون أحدهما كاتبا دون الآخر ، وإن كانا يتلقّيان ، ويأخذان منه ذلك لما ذكر في آية أخرى حين{[19771]} قال : { وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد } ولم يُقرأ : قريناه .

ويجوز أن يكون المتلقّيان جميعا يكتبان على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كاتبان : كاتب عن يمين وكاتب عن يساره ، فيكتبان [ ما كان من ]{[19772]} الحسنات والسيئات ، ثم يرفعان إلى من فوقهما كل إثنين وخميس ، فيُثبتان{[19773]} من ذلك [ ما كان ]{[19774]} من ذلك من ثواب أو عقاب ، ويُلقيان{[19775]} ما سوى ذلك .

ورُوي أيضا عنه وعن غيره من أهل التأويل أنهما يكتبان ما كان من خير وشر ، وما سوى ذلك فلا .

ولكن ظاهر الكتاب يدلّ على أنه يكتب كل شيء ، وهو قوله تعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } إلا أن يقال : المراد { من قول } هو سبب الثواب والمأثم كما قال في آية أخرى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } [ الكهف : 49 ] أي لا يغادر صغيرة من المآثم ولا كبيرة منها إلا مطلق صغائر الأشياء وكبائرها . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

ثم جعل المتلقّيين اثنين يحتمل على ما جعل في الشهادة اثنين في ما بينهم في أحكام والحقوق يشهدان عليه في الآخرة .

وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } في ظاهر الآية أن الملائكة إنما يكتبون ظاهر الأقوال والأفعال لا [ ما ]{[19776]} في الضمائر . لكنه غير مُستنكر في العقول أن يكون الله تعالى أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم ، فيعرفون ذلك ، ويكتبون . ولكن ظاهر الآية يشير إلى ما قلنا ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } قال القتبيّ : أراد { قعيد } من كل جانب منهما ، إلا أنه اكتفى بذكر الواحد إذ كان دليلا على الآخر . { وقعيد } بمعنى : قاعد كما يقال : قدير ، وقادر ، أو يكون بمنزلة أكيل وشريب ، أي هو مُؤاكِل ومشارب : { قعيد } أي مقاعد . وبه قال أبو عوسجة . قعيد من المقاعدة كما يقال : قعيدي وجليسي ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { رقيب عتيد } الرقيب الحفيظ والعتيد الحاضر ، أي ليس بغائب حتى يغيب عنه شيء ، والله أعلم .


[19751]:في الأصل وم: ويخبرهم أن عليهم.
[19752]:في الأصل وم: أفعالهم وأقوالهم.
[19753]:في الأصل وم: أعمالهم.
[19754]:في الأصل وم: ليكونوا.
[19755]:في الأصل وم: يقولون ويفعلون.
[19756]:في الأصل وم: فيستحيي.
[19757]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[19758]:في الأصل وم: مكان.
[19759]:ساقطة من الأصل وم.
[19760]:ساقطة من الأصل وم.
[19761]:ساقطة من الأصل وم.
[19762]:في الأصل وم: أخبرهم.
[19763]:في الأصل وم: أعمالهم وبقعودهم.
[19764]:في الأصل وم: إياهم.
[19765]:ساقطة من الأصل وم.
[19766]:ساقطة من الأصل وم.
[19767]:في الأصل وم: حيث يرى.
[19768]:في الأصل وم: لبعض.
[19769]:في الأصل وم: أخبر.
[19770]:في الأصل وم: فعلوا وقالوا على.
[19771]:في الأصل وم: حيث.
[19772]:في الأصل: ما كان، ساقطة من م.
[19773]:في الأصل وم: فيثبتون.
[19774]:ساقطة من م.
[19775]:في الأصل وم: ويلقون.
[19776]:ساقطة من الأصل وم.