الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ} (17)

قوله تعالى : " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد " أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان ، وهما الملكان الموكلان به ، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر ، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة ، وتوكيدا للأمر عليه . وقال الحسن ومجاهد وقتادة : " المتلقيان " ملكان يتلقيان عملك : أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك . قال الحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا{[14158]} " [ الإسراء : 14 ] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك . وقال مجاهد : وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكتبان أثره إلزاما للحجة : أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، فذلك قوله تعالى : " عن اليمين وعن الشمال قعيد " . وقال سفيان : بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله . وروي معناه من حديث أبي أمامة ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مقعد ملكيك على ثَنِيَّتِك{[14159]} ، لسانك قلمهما وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما ) . وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر . على الحنك . ورواه عوف عن الحسن قال : وكان الحسن يعجبه أن ينظف عَنْفَقَتَهُ . وإنما قال : " قعيد " ولم يقل قعيدان وهما اثنان ؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه . قاله سيبويه ، ومنه قول الشاعر{[14160]} :

نحن بما عندنا وأنت بما*** عندك راضٍ والرأيُ مختلف

وقال الفرزدق :

إني ضَمِنْتُ لمن أتاني ما جَنَى *** وأَبَى فكان وكنتُ غيرَ غَدُورِ

ولم يقل راضيان ولا غدورين . ومذهب المبرد : أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا ، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه . ومذهب الأخفش والفراء : أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام . و " قعيد " بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد . وقيل : " قعيد " بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم .

وقال الجوهري : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، كقوله تعالى : " إنا رسول رب العالمين{[14161]} " [ الشعراء : 16 ] وقوله : " والملائكة بعد ذلك ظهير{[14162]} " [ التحريم : 4 ] . وقال الشاعر في الجمع ، أنشده الثعلبي :

أَلِكْنِي إليها وخيرُ الرسو *** ل أعلمُهم بنواحي الخَبَرْ{[14163]}

والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم .


[14158]:راجع جـ 10 ص 230.
[14159]:في رواية أخرى عن علي رضي الله عنه: "إن الملكين قاعدان على ناجذي العبد...إلخ".
[14160]:هو قيس بن الخطيم.
[14161]:راجع جـ 13 ص 93.
[14162]:راجع جـ 18 ص 191.
[14163]:ألكني إليها: أرسلني إليها، والأصل في ألكني ألئكني، فحولت كسرة الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة.