أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اختاروها عليه واستبدلوها به ، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء ، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع ، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد ، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره ، سواء كان من المعاني أو الأعيان ، ومنه قول الشاعر :

أخذت بالجملة رأسا أزعرا *** وبالثنايا الواضحات الدردرا

وبالطويل العمر عمرا جيذرا *** كما اشترى المسلم إذ تنصرا

ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها . أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى .

{ فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز ، لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم ، ونحوه :

ولما رأيت النسر عز بن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء ، والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي شفا ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل ، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران .

{ وما كانوا مهتدين } لطرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة ، والعقل الصرف ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم ، واختل عقلهم ، ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ، ونيل الكمال ، فبقوا خاسرين أيسين من الربح فاقدين للأصل .