غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

8

وثالثها : قوله { أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى } أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :

أخذت بالجمة رأساً أزعرا *** وبالثنايا الواضحات الدردرا

وبالطويل العمر عمراً جيدراً *** كما اشترى المسلم إذ تنصرا

وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة . جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء . وفي المثل " ضل دريص نفقة " أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره . فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين . والربح الفضل على رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين . وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال . ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :

ولما رأيت النسر عز ابن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . { وما كانوا مهتدين } لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان : سلامة رأس المال والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح ولا رأس المال . وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية .