اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

" أولئك " : رفع بالابتداء و " الذين " وصلته خبره .

وقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة ، وهي : " اشتروا " .

وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط ، فيصير نظير قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } [ البقرة : 274 ] ، ثم قال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } . وهذا وهم ؛ لأن " الذين " ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره ، بل هو خَبَرٌ عن " أولئك " كما تقدّم . فإن قيل : يكون الموصول مبتدأ ثانياً ، فتكون الفاء دخلت في خبره .

قلنا : يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبراً عنه ، وأيضاً فإنَّ الصّلة ماضية معنى .

فإن قيل : يكون " الَّذين " بدلاً من " أولئك " فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصاً لإبداله من مخصوص ، والصّلة أيضاً ماضية .

فإن قيل : " الذين " صفة ل " أولئك " ، ويصير نظير قولك : " الرجل الذي يأتيني فله درهم " .

قلنا : يرد بما رد به السؤال الثَّاني ، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفاً له ؛ لأنه أعرف منه ، ففسد هذا القَوْلُ .

والمشهور ضمّ واو " اشتروا " لالتقاء الساكنين ، وإنما ضمت تشبيهاً بتاء الفاعل .

وقيل : للفرق بين واو الجَمْعِ والواو الأصلية نحو : { لَوِ اسْتَطَعْنَا }

[ التوبة : 42 ] .

وقيل : لأن الضمة - هنا - أخفّ من الكسرة ؛ لأنّها من جنس الواو .

وقيل : حركت بحركة الياء المحذوفة ، فإن الأصل : " اشتريوا " كما سيأتي .

وقيل : هي للجمع فهي مثل : " نحن " . وقرئ بكسرها{[697]} على أصل التقاء الساكنين ، وبفتحها ؛ لأنها أخف .

وأجاز الكسائي همزها تشبيهاً لها ب " أَدْؤُر " و " أَثْؤب " وهو ضعيف ؛ لأن ضمها غير لازم .

وقال أبو البَقَاءِ : " ومنهم من يَخْتَلِسُهَا ، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين ؛ وهو ضعيف جدًّا ، لأن قبلها فتحة ، والفتحة لا تدلّ عليها " .

وأصل اشتروا : اشتريوا : فتحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، ثم حذفت لالتقاء السَّاكنين ، وبقيت الفتحة دالّةً عليها .

وقيل : بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت ، فالتقى سَاكِنَانِ ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع " الواو " .

فإن قيل : واو الجمع قد حركت ، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف ؟

فالجواب : أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن ، ولم يجئ ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر ؛ وأنشد الكِسَائيُّ :

يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[698]}

فأعاد الألف لما حركت الميم حركةً عارضةً .

و " الضَّلالة " مفعوله ، وهي : الجور عن القَصْدِ ، وفقد الاهتداء ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين .

و " بالهدى " متعلّق ب " اشتروا " والباء هنا للعوض ، وهي تدخل على المتروك أبداً .

فأما قوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } [ النساء : 74 ] ، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذةُ لا المتروكة .

فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيّ : " أن المراد ب " المشترين " المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق ، ويخلصوا الإيمان بالله - تعالى - ورسوله ، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد ، فحينئذ دخلت " الباء " على المتروك " .

والشِّراء - هاهنا - مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى ، وآثروا الضلالة ، جُعِلُوا بمنزلة المُشْترين لها بالهُدَى ، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } فأسند الرِّبْحَ إلى التِّجَارة ، والمعنى : فما ربحوا في تِجَارتهم ؛ ونظير هذا التَّرْشيح قول الآخر : [ الطويل ] .

بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ *** وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ{[699]}

لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله : " وَعَجّت المَطَارف من جُذَام " أي : استغاثت الثياب من هذه القبيلة . وقول الآخر : [ الطويل ] .

وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنُ دَايةٍ *** وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي{[700]}

لما جعل " النَّسْرَ " عبارة عن الشَّيب ، و " ابن داية " وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب ، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ ، وقول الآخر : [ الوافر ] .

فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ *** بِعَالِمَةٍ بأَخلاَقِ الكِرَامِ

إِذَا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا *** تَنَفَّقْنَاهُ بِالحَبْلِ التُّؤَامِ{[701]}

لما قال : " قَصّع في قفاها " أي : دخل من القاصعاء ، وهي : جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ رشّحه بقوله : " تنفّقناه " أي : أخرجناه من النافقاء ، وهي – أيضا – من جحرة اليربوع فكذا هنا لما ذكر هنا لما ذكر سبحانه الشَّر ، أتبعه بما يُشَاكله ، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم .

والربح : الزيادة على رأس المال .

وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذه الجملة معطوفةٌ على قوله : { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } .

والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى ، و " افتعل " هنا للمُطَاوعة ، ولا يكون " افتعل " للمطاوعة إلا من فعل متعدٍّ .

وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم ، واستدل على ذلك بقول الشاعر : [ الزجر ] .

حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ *** كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ{[702]}

قال : ف " اشْتَال " افتعل لمُطَاوعة " شال " ، وهو لازم ، وهذا وهم ؛ لأن " افتعل " هنا ليس للمُطَاوعة ، بل بمعنى " فَعَل " المجرد .

ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة ، وقيل : مُصِيبين في تِجَارتهم ؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال ، والربح ، وهؤلاء أضاعوا الأمرين ؛ لأنّ رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة .

فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال ، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقّة .

وقال قتادة : " انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة ، ومن الطاعة إلى المعصية ، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السُّنّة إلى البِدْعَةِ " .


[697]:- وهو قراءة ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر، وقرأ بالفتح قعنب أبو السمّال العدوي، انظر المحرر الوجيز: 1/98، والبحر المحيط: 1/204، والقرطبي: 1/147.
[698]:- ينظر الدر المصون: 1/127.
[699]:- البيت لحميدة بنت النعمان. ينظر الكتاب: (2/25)، والمقتضب: (3/364)، وشرح جمل الزجاجي: (1/264)، والمخصص: (17/40) والاقتضاب: (117، 206)، البحر المحيط: (1/205)، الدر المصون: (1/126).
[700]:- البيت لابن المعتز. ينظر ديوانه: 2/43، شواهد الكشاف: 4/394، الدر: 1/128.
[701]:- ينظر البيتان في الكشاف: 1/71، الدر المصون: 1/128.
[702]:- ينظر البيت في الممتع: (193)، المنصف: (1/75)، واللسان مادة (شول)، البحر المحيط: (1/195)، روح المعاني: (1/162)، والدر المصون: (1/128).