ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى : اختيارها عليه واستبدالها به ، على سبيل الاستعارة ، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر . ومنه :
أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا *** وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا
وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا *** كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذ تَنَصَّرَا
وعن وهب : قال الله عز وجل فيما يعيب به بني إسرائيل : «تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة » .
فإن قلت : كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى ؟ قلت : جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به ، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة .
( والضلالة ) الجور عن القصد وفقد الاهتداء . يقال : ضلّ منزله ، وضل دريص نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي : الشف ، من قولك : أشف بعض ولده على بعض ، إذا فضله . ولهذا على هذا شف . والتجارة : صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح . وناقة تاجرة : كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها . وقرأ ابن أبي عبلة «تجاراتهم » .
فإن قلت : كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين .
فإن قلت : هل يصح : ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازي ؟ قلت : نعم إذا دلت الحال . وكذلك الشرط في صحة : رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام ؛ إن لم تقم حال دالة لم يصح .
فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة ؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً ، وهو المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد : كأن أذني قلبه خطلاً ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة . ونحوه
ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأَيَةٍ *** وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِي
لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه :
فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ *** بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ
إذَا الشّيْطانُ قَصعَ في قَفَاها *** تَنفّقْناهُ بالحُبلِ التُّوَامِ
أي إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم . يريد : إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها . استعار التقصيع أوّلاً ، ثم ضم إليه التنفق ، ثم الحبل التوام . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته .
فإن قلت : فما معنى قوله { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } . قلت : معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال ، والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة . وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة ، لم يوصفوا بإصابة الربح . وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية ؛ لأن الضال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله : قد ربح ، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.