الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى : اختيارها عليه واستبدالها به ، على سبيل الاستعارة ، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر . ومنه :

أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا *** وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا

وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا *** كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذ تَنَصَّرَا

وعن وهب : قال الله عز وجل فيما يعيب به بني إسرائيل : «تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة » .

فإن قلت : كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى ؟ قلت : جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به ، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة .

( والضلالة ) الجور عن القصد وفقد الاهتداء . يقال : ضلّ منزله ، وضل دريص نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي : الشف ، من قولك : أشف بعض ولده على بعض ، إذا فضله . ولهذا على هذا شف . والتجارة : صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح . وناقة تاجرة : كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها . وقرأ ابن أبي عبلة «تجاراتهم » .

فإن قلت : كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين .

فإن قلت : هل يصح : ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازي ؟ قلت : نعم إذا دلت الحال . وكذلك الشرط في صحة : رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام ؛ إن لم تقم حال دالة لم يصح .

فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة ؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً ، وهو المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد : كأن أذني قلبه خطلاً ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة . ونحوه

ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأَيَةٍ *** وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِي

لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه :

فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ *** بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ

إذَا الشّيْطانُ قَصعَ في قَفَاها *** تَنفّقْناهُ بالحُبلِ التُّوَامِ

أي إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم . يريد : إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها . استعار التقصيع أوّلاً ، ثم ضم إليه التنفق ، ثم الحبل التوام . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته .

فإن قلت : فما معنى قوله { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } . قلت : معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال ، والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة . وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة ، لم يوصفوا بإصابة الربح . وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية ؛ لأن الضال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله : قد ربح ، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر .