مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

{ أولئك } مبتدأ خبره . { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي استبدلوها به واختاروها عليه . وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا ، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به ، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة ، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم ، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به . والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء ، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . { فَمَا رَبِحَت تجارتهم } الربح الفضل على رأس المال ، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي ، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح ، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله :

ولما رأيت النسر عز ابن دأية*** وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر . { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر . والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما ، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة ، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح . وقيل : «الذين » صفة «أولئك » و«فما ربحت تجارتهم » إلى آخر الآية في محل رفع خبر «أولئك » .