{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } ، الاشتراء والشراء بمعنى : الاستبدال بالشيء والاعتياض منه ، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع ، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل .
الربح : هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال .
التجارة : هي صناعة التاجر ، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النموّ والزيادة .
المهتدي : اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة ، هديته فاهتدى ، نحو : سويته فاستوى ، وغممته فاغتم .
والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل ، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي ، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم ، وأن ذلك قليل فيها ، مستدلاً بقول الشاعر :
حتى إذا اشتال سهيل في السحر *** كشعلة القابس ترمي بالشرر
لأن افتعل في البيت بمعنى ، فعل .
تقول : شال يشول ، واشتال يشتال بمعنى واحد ، ولا تتعقل المطاوعة ، إلا بأن يكون المطاوع متعدياً .
أولئك : اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم ، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح ، وهم المفسدون ، ونسبة السّفه للمؤمنين ، وهم السفهاء ، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار .
وقرأ الجمهور : اشتروا الضلالة ، بضم الواو .
وقرأ أبو السماك قعنب العدوي : اشتروا الضلالة بالفتح .
ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو ، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين ، نحو : { وأن لو استقاموا } ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها .
وأمال حمزة والكسائي الهدي ، وهي لغة بني تميم ، والباقون بالفتح ، وهي لغة قريش .
والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار ، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر ، فكأنه قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري ، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة ، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك ، وهذا مفقود هنا .
وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز ، والمعاوضة متحققة ، ثم راموا يقررون ذلك ، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز ، قالوا : إن كان أراد بالآية المنافقين ، كما قال مجاهد ، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم ، والغزو ، والقتال .
فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر ، استبدلوا بالهدى الضلال ، فتحققت المعاوضة ، وحصل البيع والشراء حقيقة ، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ ، وقالوا : لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف ، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة ، وقالوا : لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء ، مع قيام الدليل الواضح ، فتحققت المعاوضة .
قالوا : وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب ، كما قال قتادة ، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، ومصدقين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومستفتحين به ، ويدعون بحرمته ، ويهددون الكفار بخروجه ، فكانوا مؤمنين حقاً .
فلما بعث صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة ، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الأتباع عنهم ، فجحدوا نبوته وقالوا : ليس هذا المذكور عندنا ، وغيروا صفته ، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم ، فتحققت المعاوضة .
قالوا : وإن كان أراد سائر الكفار ، كما قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، فالمعاوضة أيضاً متحققة ، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا ، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة : الحسي والنظري والسمعي ، وهذه التي تفيد العلم القطعي ، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر .
وقال ابن كيسان : خلقهم لطاعته ، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله ، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته ، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئاً لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء .
وسيأتي الكلام على قوله تعالى : { إلا ليعبدون } وعلى ( ولذلك خلقهم ) إن شاء الله .
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : الضلالة : الكفر ، والهدى : الإيمان ، وقبل الشك واليقين ، وقيل الجهل والعلم ، وقيل الفرقة والجماعة ، وقيل الدنيا والآخرة ، وقيل النار والجنة .
وعطف : فما ربحت ، بالفاء ، يدل على تعقب نفي الربح للشراء ، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح .
وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله : { فما ربحت تجارتهم } دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقدير ان اشتروا .
والذين إذا كان في صلة فعل ، كان في معنى الشرط ، ومثله
{ الذين ينفقون أموالهم } ، وقع الجواب بالفاء في قوله : { فلهم أجرهم } وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم ، انتهى .
وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ ، فتدخل الفاء في خبره ، كما تدخل في جواب الشرط .
وأما الذين خبر عن أولئك ، وقوله : فما ربحت ليس بخبر ، فتدخله الفاء ، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين ، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله : { فلهم أجرهم } خطأ ، لأنه ليس بجواب ، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين اشتروا مبتدأ ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك .
ولتحقق مضي الصلة ، وإذا كانت الصلة ماضية ، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بدل منه ، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول ، ولإبدال الذين من أولئك ، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص ، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء ، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه .
ونسبة الربح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة ، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً ، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } ، وهذا من باب ترشيح المجاز ، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة ، فينضاف مجازاً إلى مجاز ، ومن ذلك قول الشاعر :
بكى الخز من روح وأنكر جلده *** وعجت عجيجاً من جذام المطارف
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحاً بكى من عدم ملامته ، ثم رشحه بقوله : وأنكر جلده ، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله : وعجب ، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا ، وهي : جذام .
ومعنى البيت : أن روحاً وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه ، لأنهم لا عادة لهم بذلك ، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت ، ومن ذلك قول الشافعي ، رضي الله عنه :
أيا بومة قد عششت فوق هامتي *** على الرغم مني حين طار غرابها
لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها ، رشح هذا المجاز بقوله : قد عششت ، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة ، وقد أورده الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلاً .
وقرأ ابن أبي عبلة : تجاراتهم ، على الجمع ، ووجهه أن لكل واحد تجارة ، ووجه قراءة الجمهور على الإفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى ، وفي قوله : فما ربحت تجارتهم ، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية ، لأنه إنما نفى الربح ، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال .
وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال ، لما في الكلام من الدلالة على ذلك ، لأن الضلال نقيض الهدى ، والنقيضان لا يجتمعان ، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية ، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله :
أي لا منار له فيهتدي به ، فنفى الهداية ، وهو يريد نفي المنار ، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به ، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء ، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة ، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط ، وليس بتاجر ، إنما التجارة : التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح .
والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال : فلا تجارة لهم ولا ربح .
وقال الزمخشري معناه : إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة ، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح ، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية ، لأن الضلال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح .
ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال ، ولا على الخسران فيه ، لأن الربح هو الفضل على رأس المال ، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية ، ولا على الانتقاص منه ، وهو الخسران .
قيل : لما لم يكن قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } مفيداً لذهاب رؤوس أموالهم ، أتبعه بقوله : { وما كانوا مهتدين } ، فكمل المعنى بذلك ، وتم به المقصود ، وهذا النوع من البيان يقال له : التتميم ، ومنه قول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش حول خبائنا *** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
تمم المعنى بقوله : الذي لم يثقب ، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة ، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة ، أو المترجى ذلك منه .
وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك ، لأن الكفر محبط للأعمال .
قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا } الآية وفي الحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ابن جدعان : وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين ؟ فقال : « لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية .
ألا ترى إلى قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } ، وقولهم : { وما نحن بمعذبين } وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياماً معدودة ، وبعضهم يقول يوماً واحداً ، وبعضهم عشراً ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل .
فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين .
وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفى عنهم الهداية والربح ، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية .
والذي أختاره أن قوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : { وما كانوا مهتدين } مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيراً ، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل .
وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً ، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيداً تغليباً للخير ، لا للحال .
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في المنافقين .
الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات .
الثالث : في عبد الله بن أُبي وأصحابه نزل : { وإذا لقوا الذين آمنوا } والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه : أنه لقي نفراً من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : ألي تقول هذا ، والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيراً .