نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ} (3)

ولما كان الملك قد لا يكون إلهاً ، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركاً أصلاً بخلاف غيرها ، أنهي الأمر إليها ، وجعلت غاية البيان ، فقال : { إله الناس * } إشارة إلى أنه كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد ، فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد ، وهذه دائماً طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في الربوبية والملك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة ، فمن كان ربهم وملكهم فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ، ولا يستعيذوا بغيره ، كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به ، والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد فأحبوه واستأنسوا به ، ولجأوا إليه في جميع أمورهم ، وبطن احتجاباً بكبريائه عن أن يحاط به ، أو بصفة من صفاته ، أو شيء من أمره ، فهابته العباد ، ودعاهم الحب إلى الوله شوقاً إلى لقائه ، وزجرتهم الهيبة فجزعوا خوفاً من طرده لهم عن فنائه ، وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر فيقول مثلاً : { ملكهم } { إلههم } تحقيقاً لهذا المعنى ، وتقوية له بإعادة اسمهم الدال على شدة الاضطراب المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه الدال على الكمال المقتضي للغنى المطلق ، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة ، قادر عليها ، لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات ، وبياناً لشرف الإنسان ، ومزيد الاعتماد بمزيد البيان ، ولئلا يظن أن شيئاً من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف إليه الذي قبله من ذلك الوجه ؛ لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه ، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلاً ، واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستعاذات من جميع وجوه التربية وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ من جهة أنه في قهر الملك بالضم ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات ، إشعاراً بعظم الآفة المستعاذ منها ، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة ، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة ، حتى كأنها صفة واحدة ، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب على حد سواء ، فلا فعل لأحد إلا وهو خلقه سبحانه وتعالى ، وهو الباعث عليه ، وأخر الإلهية لخصوصها ؛ لأن من لم يتقيد بأوامره ونواهيه فقد أخرج نفسه من أن يجعله إلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ، ووسط صفة الملك ؛ لأن الملك هو المتصرف بالأمر والنهي ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم ، فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته وتقتضيها ، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان ، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى ، فإن الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة التي هي معنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال ، والملك هو الآمر الناهي المعز المذل ، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال ، وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى ، فلتضمنها جميع معاني الأسماء كان المستعيذ جديراً بأن يعوذ ، وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية ؛ لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربياً ، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم ، ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها ، فقد أجمع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من { ملك } بخلاف الفاتحة كما مضى ؛ لأن الملك إذا أضيف إلى { اليوم } أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ، ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى المُلك بالضم ، وأما إضافة المالك إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرىء به هنا لنقص المعنى ، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ؛ لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء ، والمِلك - بكسر الميم - أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن باديه إلى الخافي يشير .