تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ} (3)

الآيتان2و3 : وقوله تعالى : { قل أعوذ برب الناس } { ملك الناس } { إله الناس } ولم يقل أعوذ برب الخلق ، وهذا أعم من الأول ، وإضافة كلية الأشياء إليه ، أو إضافته إلى الكل بالربوبية من باب التعظيم لله تعالى ، فما كان أعم فهو أقرب في التعظيم . فهذا ، والله أعلم ، يخرج على أوجه :

أحدها : أراد التعريف ، وبهذا تقع الكفاية في معرفة من يفزع إليه ممن يملك ذلك ليعوذ منه . لكنه ذكر { برب الفلق } ( الفلق : 1 ) في موضع ، و{ بالله } ( البقرة : 67 ) و { بك } ( المؤمنون : 58 ) في موضع كقوله تعالى : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } ( المؤمنون : 97 ) وقال : { فاستعذ بالله } ( الأعراف200و . . . } ليعلم به من سعة الأمر ، وتحقيق الفزع والرجوع إلى الله تعالى عند نزول ما ينزل بالمرء مما يخاف على نفسه ، ويشغل قلبه ، أن له ذكر ما يحضره من أسماء الله تعالى ، أي اسم كان ؛ إذ ما من اسم إلا وفيه دلالة على نعمه وسلطانه وقدرته وعظمته ، ليكون في ذلك توجيه الشكر{[24247]} إليه ، وإخلاص الحمد له ، بإضافة النعم ( إليه ){[24248]} ، ليكون ذلك من بعض ما به الشفع إلى الله تعالى من ذكر قدرته ، وإحسانه أرفع في ذكر الناس بالإضافة إليه .

والثاني : أن الذين عرف فيهم الأرباب والملوك والعبادات لمن دون الله تعالى ، هم الإنس دون غيرهم ، فأمر أهل الكرامة بمعرفة الله تعالى ، والعصمة عن عبادة غيره ، والاعتراف بالملك والربوبية له ، أن يفزعوا إليه عما ذكر ، ذاكرين لذلك ، واصفين بأنه الرب لهم ، والملك عليهم ، والمستحق للعبادة لا غيره .

أو لما كان للوجوه التي ذكرنا ضل القوم من اتخاذهم أربابا دون الله تعالى أو نزولهم على رأي ملوكهم في الحل والحرمة ، وفي البسط والقبض ، أو عبادتهم غير الله تعالى ، وفزعهم إليه ، فأمر الله تعالى أهل الكرامة بما ذكرت الفزع ( إلى الذي يذكر بهذه الأوصاف على الحقيقة على نحو فزع ){[24249]} الضالين إلى أرٍبابهم وملوكهم والذين ( عبدوهم دونه ){[24250]} ؛ إذ إليه مفزع الكفرة أيضا عند الإياس ممن اتخذوهم دون الله لنصرتهم ومعونتهم ، والله أعلم .

والثالث : أن المقصود من خلق هذا العالم هم الذين نزلت فيهم هذه السورة ، وغيرهم كالمجعول المسخر لهم . قال الله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } ( البقرة : 29 ) ، وقال تعالى : { وهو الذي سخر } الآية ( النحل : 14 ) ، وقال الله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشا } الآية ( البقرة : 22 ) .

فإذا قيل : { برب الناس } { ملك الناس } فكأنه قيل : برب كل شيء ؛ لأن ما سواهم جعل لهم ، وذكر الخلق والتوجه إليه في الاستعاذة والاستعانة هو اعتراف ألا يملك غيره ذلك ، فاستوى الأمران والله أعلم .

وقيل : في { برب الناس } مصلح الناس ، وذلك يرجع إلى أن به صلاحهم في الدين وفي النفس .

وقيل : { ملك الناس } على الإخبار بأن الملك له فيهم جميعا وفي الخلق مما لم يذكر فيه وجه الملك ، فبين أن ذلك كله في التحقيق لله تعالى وملكه ، ولغيره يكون من جهته على ما أعطى لهم بقدر ما احتاجوا إليه .

وقيل : سيدهم ، لكن لفظة السيد لا تذكر لمالك غير الناس ، ويوصف بالرب والملك والمالك على الإضافة لا مطلقا ، يقال : رب الدار ، ومالك الجارية ، وملك المصر ، ونحو ذلك ، فكأنه أقرب .


[24247]:في الأصل وم: الملك
[24248]:ساقطة من الأصل وم
[24249]:من م، ساقطة من الأصل
[24250]:في الأصل وم: عبدوه دونهم