نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} (2)

ولما تم البيان لهويته سبحانه وتعالى على هذا الوجه الذي أنهاه بالأحدية المعلمة بالتنزه عن القسمة والنظير ، وكان بيان القرآن بالغاً أقصى نهايات البيان ، وكان الأحد من النعوت المتوغلة في السلب ، وكانت الشركة تقع في التعبير به في النفي ، وهو بمعناه الحقيقي ، وتقع فيه بالإثبات والسلب على حد سواء ، أو دلالته على الكمال والإضافة أكمل ، وبناه على الاسم الأعظم الذي هو آخر الأسماء الظاهرة ، وأول الأسماء الباطنة ، ولم يقع فيه شركة بوجه دفعاً لكل تعنت ، وإشعاراً بأن لم يسم به لم يستحق الألوهية ، وأخلى الجملة عن عاطف ؛ لأنها كالنتيجة للأولى ، والدليل عليها ، فقال مكاشفاً لنفوس المؤمنين وللعلماء ، معيداً الاسم ، ولم يضمر لئلا يظن تقيد بحيثية غيب أو غيرها : { الله } أي الذي ثبتت إلهيته وأحديته ، لا غيره ، { الصمد } الذي تناهى سؤدده المطلق في كل شيء إلى حد تنقطع دونه الآمال ، فكان بحيث لا يحتاج إلى شيء ، وكل شيء إليه محتاج ، وتنزه عن الجوفية فلم تدن من جنابه بفعل ولا قوة ؛ لأنه تنزه عن القسمة بكل اعتبار مع العظمة التي لا يشببها عظمة ، فكان واحداً بكل اعتبار ، وذلك هو مفهوم الأحدية عبارة وإشارة ، فكان مصموداً إليه في الحوائج ، أي مقصوداً لأجلها ، فهو الموصوف بهذا الاسم على الإطلاق ، وبكل اعتبار ، فكان موجداً للعالم ؛ لأن العالم مركب بدليل المشاهدة ، فكان ممكناً ، فكان محدثه واجباً قديماً ، نفياً للدور والتسلسل المحالين ، وخلقه له بالقدرة والاختيار ؛ لأنه لو كان بالطبع والإيجاب لكان وجوده مع وجوده ؛ لأن العلة لا تنفك عن المعلول ، فيلزم من قدم البارىء عز وجل قدم العالم ، ومن حدوث العالم حدوث البارىء جل وعز ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، وقصر الصمدية عليه ؛ لأن اشتداد الألف لحاجة الشيء إلى غيره ربما كان موجباً لخفاء اختصاصه به ، ولم يقصر الأحدية إما للتنبيه على أن ذلك لشدة ظهوره غني عن التأكيد ، وإما استئلافاً لهم لئلا ينفروا قبل سماع تمام السورة ، على أنه بظهور قصر الصمدية التي أحد معنييها لازم الأحدية ظهر الاختصاص بالأحدية ، قال العلماء رحمهم الله تعالى : والصمد من صمد إليه ، إذا قصده ، وهو كالأحد ، بني على هذا الوزن ؛ لأنه لا تلحقه المضارعة ، ولا تدن منه المشابهة ؛ لأنه اسم خاص ، فهو السيد المصمود إليه ، وهو أيضاً الذي لا جوف له ولا رخاوة بوجه فيه ؛ لأن الأجواف وعاء ، وكل وعاء محتاج إلى موعيه ، يقال : شيء مصمد ، أي صلب ، وحجر صمد : أملس لا يقبل الغبار ، ولا يدخل فيه شيء ، ولا يخرج منه شيء ، قال ابن قتيبة : وهو على هذا الدال فيه مبدله من التاء ، وهو المصمت ، وهو أيضاً العالي الذي تناهى علوه ، تقول العرب لما أشرف من الأرض : صمد بإسكان الميم ، وبناء صمد أي معلى ، فهو على التفسير الأول من الصفات الإضافية ، بمعنى أنه سيد لكل موجود ، والكل محتاجون إليه في ابتداء إيجادهم وفي تربيتهم ، فهم يصمدون إليه في الحوائج ، ويقصدون إليه في جميع الرغائب ، وهو غني على الإطلاق ، وذلك هو اتصافه بصفات الإلهية . قال الإقليشي : فعلى هذا- أي أنه الذي يلجأ إليه ويعتمد عليه لتناهي سؤدده - يتشعب من صفة الصمد صفات السؤدد كلها ، من الجود ، والحلم وغير ذلك ، وإذا قلنا : إن الصمد العالي تشعبت منه صفات التعالي كلها من العزة والقهر والعلو ونحوها ، انتهى .

وقد روى البيهقي رحمة الله تعالى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " الصمد " قال : هو السيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغني الذي كمل في غناه ، والجبار الذي كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكم الذي قد كمل في حكمه ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل .

هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفؤ ، وليس كمثله شيء ، فسبحان الله الواحد القهار .

وقال أبو العباس ابن تيمية الحنبلي في كتابه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " : أجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب سبحانه وتعالى بائن من مخلوقاته ، يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل بوصف من صفات الكمال دون صفات النقص ، ونعلم أنه ليس كمثله شيء ، ولا كفؤ له في شيء من صفات الكمال ، كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد الله الصمد } إلى آخرها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد إلى آخر ما مضى عنه ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره : هو الذي لا جوف له ، والأحد الذي لا نظير له .

فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه ، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له ، وقال الحرالي : الصمد - يعني بالسكون - : التوجه بالحاجات إلى مليّ بقضائها لا يحتاج إلى سواه ، فلذلك يكون الصمد سيداً لا يساد ، السيد الله ، انتهى ، وعلى التفسير الثاني : هو من النعوت السلبية ، فهو دال على نفي الماهية التي تعنت بها فرعون لاقتضائها المقومات المستلزمة للحاجة إلى ما به التقويم ، وعلى إثبات الهوية المنزهة عن كل شائبة نقص ، فإن كل ما له ماهية كان له جوف وباطن ، وهو تلك الماهية ، وهو ما لا باطن له ، وهو موجود فلا جهة ولا اعتبار في ذاته إلا الوجود ، فهو واجب الوجود غير قابل للعدم ، وقد علم بهذا أنه جامع لما ذكر فيما قبله ، فإن هذا التفسير الثاني يتشعب منه من الأسماء ما ينظر إلى نفي التركيب كالأحد ونحوه ، وهذان التفسيران الأول والثاني جامعان لجميع ما فسر به ، ولما عسى أن يقال فيه سبحانه من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، فمن كان مصموداً إليه في جميع الحاجات ، ومتعالياً عن كل سمت حدث ، وشائبة نقص ، كان موجداً لكل ما يريد من نفع وضر ، ونافع وضار ، قادراً على حفظ ما يريد ، وكان معلوماً كالشمس أنه لا شريك له ، وأنه هو وحده المستحق للعبادة لاحتياج الكل إليه الاحتياج المطلق ، وغناه عنهم الغنى المطلق ، وتفرده بصفات الكمال والانقطاع عن قرين ، وإلى الصمدانية ينتهي التوجه وهو الإقبال بالكلية ، وهي ترد على الفلاسفة القائلين بتدبير القول ، والصابية القائلين بتدبير النجوم ، وعلى غيرهم من كل من ادعى تدبيراً لغير الله سبحانه وتعالى ، ومن اعتقد صمديته المقتضية لكمال الذات والصفات وشمول التدبير ، أنتج له كمال التفويض والتوكل وهو توحيد الربوبية ، وهذه الأسماء الأربعة مشيرة إلى مقامات السائرين ، ومرامات الحائرين والجائرين ، فالمقربون نظروا إلى الأشياء فوجدوا كل ما سواه سبحانه وتعالى معدوماً بالذات ، فكان ذكرهم " هو " ، وأصحاب اليمين نظروا إلى وجود الممكنات فعينوا مرادهم وميزوا مذكورهم بالجلالة ، وأصحاب الشمال جوزوا الكثرة في الإله فاحتاجوا في تذكيرهم إلى الوصف بالأحدية والصمدية ، وهي رادة على أهل الاتحاد أعظم رد ، فإنهم يقولون : إن الإله هو هذا العالم ، وهو منقسم بالحس فضلاً عما عداه ، ومحتاج أشد احتياج .

ولما انتهى بيان حقيقته سبحانه وتعالى ، وأنه غير مركب أصلاً ، وبين سبحانه بصمديته المستلزمة لوحدانيته أن الكل مستند إليه ومحتاج إليه ، وأنه المعطي لوجود جميع الموجوات ، والمفيض للجود على كل الماهيات فلا يجانس شيئاً ، ولا يجانسه شيء ، ولا يكون له نظير في شيء من ذلك . وكان ربما تعلق بوهم واهم أن تولد غيره عنه يكون من تمام سؤدده المعبر به عن قدرته ، بين أن ذلك محال لاقتضائه الحاجة مما لا تعلق له بالقدرة ؛ لأن القدرة من شأنها أنها لا تتعلق بالمحال ، وهذا محال ؛ لأنه سبحانه صمد ، فكان ذاك بياناً للصمدية في كلا معنييها ، فقال من غير عاطف دالاًّ على انتفاء الجوف الذي هو أحد مدلولي " صمد " مكاشفاً للعقلاء شارحاً ؛ لأنه لا يساويه شيء من نوع يتولد عنه ولا جنس يولد هو عنه ، ولا غير ذلك يوازيه في وجود ولا غيره ، { لم يلد } أي لم يصح ولم ينبغ بوجه من الوجوه أن يقع تولد الغير عنه مرة من المرات ، فكيف بما فوقها ؛ لأن ذلك مستلزم للجوف وهو صمد لا جوف له ؛ لأن الجوف من صفات النفس المستلزم للحاجة وهو مستغن بدوامه في أبديته عمن يخلفه أو يعينه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، فهو رد على من قال : الملائكة بنات الله ، أو عزير ، أو المسيح ، أو غيره .