نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : { من شر الوسواس * } هو اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد الموسوس ، سمي بفعله مبالغة ؛ لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها " وس " مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه ؛ لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال ، كما قال تعالى :{ وزلزلوا زلزالاً شديداً }[ الأحزاب : 11 ] ، وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون أجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك ؛ لأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس ، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد ، يترشح منه بطر الحق ، وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، وغمص الناس - وهو احتقارهم- المعلوم من قول الشيطان{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] ، ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ، ومنع حقوقهم ، والاعتداء عليهم والظلم لهم ، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء ، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة }[ الأعراف : 20 ] الآية ، والكذب والمخادعة كما عرف به :{ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور }[ الأعراف : 21 ] ، ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به :{ قال أأسجد لمن خلقت طيناً }[ الإسراء : 61 ] ، ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به :{ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال }[ الحجر : 33 ] ، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه :{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] الآية ، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } ، والإذلال وهو الجرأة على المخالفات ، فينشأ عن ذلك شرور متعدية ، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق ، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث ، وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة ، فيصير رديء الطبع ، فلا ينفع فيه العلاج ؛ بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس ، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام .

ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى ، فإنه يطرد الشيطان ، وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ، ليشتد حذره منه ، وبعده عنه ، فقال : { الخناس * } أي الذي عادته أن يخنس ، أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد ، فهو شديد النفور منه ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ، كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر . قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، ويقال : رأسه كرأس الحية ، واضع رأسه على يمين القلب يحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه خزاه الله تعالى .