نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

ولما خوفهم ، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله : عاطفاً على ما تقديره : أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون ، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم ، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم : { أولم } ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا ، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى : { يروا } بالياء التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله ، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر ، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى : { إلى ما خلق الله } أي الذي له جميع الأمر { من شيء } أي له ظل { يتفيؤا } أي تترجع إلى جهة الشاخص { ظلاله } وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له { عن اليمين } وهي ما على يمين المستدير للشمال ، المستقبل للجنوب ، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام ، وأفراد لأن الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء ، وجمع في قوله : { والشمائل } لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص ، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق ، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار ، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك ، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء .

ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب ، جمع بالنظر إلى معنى " ما " في قوله : { سجداً } أي حال كونهم خضعاً { لله } أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم .

ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه ، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً : { وهم داخرون * } ذلاً وصغاراً ، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه ، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره ، والتغير دال على المغير .