نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

{ ومن حيث خرجت } أي من بقاع الأرض للصلاة بأمتك { فول وجهك } أي اجعله يلي { شطر } أي عين{[5573]} { المسجد الحرام } .

ولما تقرر بما تكرر أن هذا التحويل فرض في حقه صلى الله عليه وسلم حتم لا فتور عنه ولا رخصة فيه إلا ما استثنى في النفل أدخل معه أمته ليعمهم الحكم وربأ{[5574]} بمنصبه المنيف وقدره الشريف عن أن يكون لأحد عليه ما يسمى حجة بحق أو باطل فقال : { وحيث ما كنتم } أي أيتها الأمة من جميع جهات الكعبة في جميع أقطار الأرض الدانية والقاصية . قال الحرالي : وذكر في أمته بالكون لا بالخروج إشعاراً بتقاصر الأمة عن علو أحوال الأئمة وأن حال الأمة في خلوتهم كحالهم{[5575]} في جلوتهم - انتهى .

فولوا وجوهكم } أي اجعلوها والية{[5576]} { شطره } للصلاة . قال الحرالي : وفيه إشعار يلحظ صحة صلواتكم{[5577]} فرادى وفي بيوتكم{[5578]} ، كما قال : إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت في أهلك ، بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن صلاته لا تقع إلا جمعاً من حيث إنه يصلي لهم وأنه إمام{[5579]} {[5580]}لا تقع صلاته{[5581]} فذا - انتهى .

ولما كان ربما ظن أن الرجوع إلى القبلة الأولى يزيل الكلام بين سبحانه وتعالى أن الأمر بخلاف ذلك فقال : { لئلا يكون للناس } أي لأحد{[5582]} منهم { عليكم حجة } بأن يقولوا : النبي{[5583]} المبشر به يستقبل{[5584]} بيت إبراهيم عليه {[5585]}الصلاة و{[5586]}السلام ثم لا{[5587]} يتحول عنه وهذا لم يفعل ، {[5588]}أو يقولوا : ما جاء بشيء جديد وإنما هو تبع لنا في قبلتنا{[5589]} .

ولما كانت الحجة كلاماً ينشأ عن مقدمات يقينية{[5590]} مركبة تركيباً صحيحاً وقع الاستثناء باعتبار تلبس المستثنى بجزء المعنى الذي نفى عن المستثنى منه بدلالة التضمن فهو قريب من الاستخدام فقال : { إلا الذين } أي الناس الذين { ظلموا منهم } فإنهم لعنادهم{[5591]} ولددهم لا يرجعون إلى الحق الذي يعرفونه بل يكون لهم عليكم مجرد كلام هو مادة الحجة لا حجة بما دل عليه وصفهم بالظلم الذي هو وضع الشيء في غير محله كما هو شأن كل ماش{[5592]} في مأخذ الاشتقاق الذي هو الظلام ، ويكون الاستثناء {[5593]}على هذا{[5594]} منقطعاً{[5595]} بمعنى{[5596]} : لئلا يحتج أحد عليكم لكن الذين ظلموا يقولون أو{[5597]} يظهرون فجوراً{[5598]} ولدداً في ذلك كلاماً يسمونه حجة ، ولعل السر في تصويره على تقدير الانقطاع{[5599]} بصورة الاستثناء الحث على الثبات على أمر الله {[5600]}سبحانه وتعالى{[5601]} والإعراض عمن خالفه نظراً إلى ما تأصل من إبطاله واستحضاراً لما ظهر من فاسد أحواله وإن أبدى من الشبه ما يخفى أمره ويصعب على بعض المحقين{[5602]} حله حتى يظن حجة ؛ ويجوز أن يراد بالحجة أعم من القطعي والظني فيكون الاستثناء متصلاً ، قال السفاقسي{[5603]} : ومثار{[5604]} الخلاف هل الحجة الدليل الصحيح والاستثناء منقطع أو الاحتجاج والخصومة فهو متصل - انتهى{[5605]} . ووصفها بالاستعلاء عليهم لما يحصل بها من الأذى بدلالتها على العداوة والشقاق لا بتغييرها في وجه شيء من الأدلة ، {[5606]}و { الذين ظلموا } إن أريد بهم اليهود فهم يقولون : ما رجع إلى الكعبة إلا{[5607]} محبة لبلده ، ولو كان في قبلتنا على أمر من الله سبحانه{[5608]} ما تحول عنه ، وإن كان المشركين فهم يقولون : قد استقبل بلدكم ومسجدكم فيوشك أن يدين دينكم . ولما نفى{[5609]} عن أهل هذه القبلة بالثبات عليها كل سبيل تسبب عنه قوله : { فلا تخشوهم } أي في هذا الأمر ولا غيره ، فإني أرد عنكم كيدهم وأوهن أمرهم{[5610]} . ولما تبين أحكام فعله ومضى ما يريد من ربطه وحله حثهم على لزوم هذه القبلة محذراً من مخالفته في شيء من الأشياء فقال : { واخشوني{[5611]} } ثم عطف على علة{[5612]} الاستقبال قوله : { ولأتم } أي بهذا الدين المفيد لعز الدارين ونعيمهما الذي من {[5613]}جملته هذا{[5614]} الاستقبال { نعمتي عليكم } بالتمكين من الحجج وغيره من أمور الدين حين{[5615]} أنزل عليكم آية { اليوم أكملت لكم دينكم{[5616]} }[ المائدة : 3 ] كما أتممتها على إبراهيم خليلي صاحب هذا البيت الذي وجهتكم إليه . قال الحرالي : وفي طيه بشرى بفتح مكة واستيلائه على جزيرة العرب كلها وتمكنه بذلك من سائر أهل الأرض لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين{[5617]} فتح الله بهم له{[5618]} مشارق الأرض ومغاربها التي انتهى إليها ملك أمته - انتهى . { ولعلكم تهتدون } أي ولتكونوا على رجاء عند أنفسكم ومن يراكم ممن لا يعلم العواقب من أن تهتدوا{[5619]} إلى الثبات{[5620]} على هذه القبلة وغيرها من أمر هذا الدين بسبب خشيتي فإنها جالبة لكل خير ودافعة لكل ضير . قال الحرالي : وفي كلمة { لعل }{[5621]} على ما تقدم إيهام يشعر{[5622]} بتصنيفهم صنفين : مهتد للثبات على السنة ، ومتغير فيه بوجه من وجوه البدعة ، لما ذكر من أن ما هو للخلق تردد فهو من الحق تقسيم وإبهام في تعيين ذلك التقسيم والتصنيف ، ففيه إعلام لقوم بالاهتداء الدائم بما تفهمه صيغة الدوام وإشعار بانقطاع قوم عن ذلك التمادي بما يفهمه ما هو للخلق بموضع الترجي ، وفي طيه{[5623]} إشعار باستبدادهم بالأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسامهم فيه بين ثابت عليه دائم الاهتداء فيه ومتغير عنه كما ظهر فيما كان من ثبات من ثبت بعده وردة من ارتد - انتهى .


[5573]:من م ومد و ظ، ووقع في الأصل: غير –كذا مصحفا.
[5574]:هكذا في الأصل ومد بمعنى إعلاء، وفي ظ، ريأ، وكتب فوقه: إعلانا وفي م: ربشا -كذا
[5575]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: كمحالهم.
[5576]:من م و ظ، وفي الأصل ومد: واليه
[5577]:ذا في الأصل، وفي م و ظ ومد: صلواتهم
[5578]:كذا في الأصل، وفي م و ظ ومد: بيوتهم.
[5579]:زيد في م: وإن
[5580]:في م: صلاته لا تقع
[5581]:في م: صلاته لا تقع
[5582]:ليس في م
[5583]:في م ومد: الشي -كذا
[5584]:زيد في م: به
[5585]:ليس في م
[5586]:ليس في م
[5587]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: لم
[5588]:ليست في ظ. وفي البحر المحيط 1/ 441: والناس قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم، وقيل اليهود وحجتهم قولهم: يخالفنا محمد في قبلتنا وقد كان يتبعها، أو لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلا برأيه ويزعم أنه أمر به، أو ما درى وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم؛ وقيل مشركو العرب وحجتهم قولهم: قد رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة ليست في ظ. وفي البحر المحيط 1/ 441: والناس قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم، وقيل اليهود وحجتهم قولهم: يخالفنا محمد في قبلتنا وقد كان يتبعها، أولم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلا برأيه ويزعم أنه أمر به، أو ما درى وأصحابه أين قبلتهمحتى هديناهم؛ وقيل مشركو العرب وحجتهم قولهم: قد رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا حين
[5589]:ار يستقبل القبلة
[5590]:ن م ومد و ظ، وفي الأصل: يقينه - كذا
[5591]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: بعنادهم
[5592]:من م و ظ، وفي الأصل: ماس -كذا
[5593]:ليس في م ومد
[5594]:ليس في م ومد
[5595]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: مطلقا
[5596]:ليس في م ومد
[5597]:في ظ: و
[5598]:في م ومد فخورا.
[5599]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: الانقطار -كذا
[5600]:ليست في م و ظ
[5601]:لست في م و ظ
[5602]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: المخفين -كذا
[5603]:في م: السفاقسي
[5604]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: مثال
[5605]:وفي البحر المحيط 1/ 441: ونقل السجاوندي عن أبي بكر ابن مجاهد أنه قرأ "إلى الذين" جعلها حرف جر وتأولها بمعنى مع، وأما على قرأة الجمهور فالاستثناء متصل قاله ابن عباس وغيره واختاره الطبري وبدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانا حسنا كان أولى من غيره، وفي المد من البحر 1/ 441: وقرئ "إلا" حرف استفتاح و"الذين ظلموا" مبتدأ خبره "فلا تخشوهم".
[5606]:العبارة من هنا إلى "إن يدين دينكم" ليست في ظ
[5607]:من م ومد، وفي الأصل: إلى
[5608]:ليس في م
[5609]:في م: لقي -كذا
[5610]:قال المهائمي 1/ 64: {فلا تخشوهم} أن يقولوا: خالفتم قبلة إبراهيم، لأن هذا القول منهم يخالف ما تواتر من قبلة إبراهيم. وقال أبو حيان الأندلسي 1/ 442: هذا فيه تحقير لشأنهم وأمر باطراحهم ومراعاة لأمره تعالى... ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل فإنهم لا يقدرون على نفع وضر وأمر بخشيته في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام
[5611]:في الأصول: واخشون
[5612]:في م: الجملة.
[5613]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: جملة هذه
[5614]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: جملة هذه
[5615]:في م: حتى
[5616]:سورة آية 3
[5617]:في ظ: الذي
[5618]:ليس في ظ
[5619]:في ظ ومد: يهتدوا
[5620]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: الكتاب.
[5621]:قال أبو حيان الأندلسي 1/ 64: والمعنى لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم استقبال الكعبة أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم، والظاهر رجاء الهداية مطلقا.وقال المهائمي: تهتدون للصراط المستقيم بالتوجه إليها لاستلزامه التوجه إلى الباطن فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة.
[5622]:ليس في ظ
[5623]:في م: طيهم