نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (145)

ولما أطمع أول الآية في أهل الكتاب{[5478]} وقطع عنهم آخرها صرح بما لوّح{[5479]} إليه هذا الأخير{[5480]} وأعلمه صلى الله عليه وسلم بعاقبة أمرهم وأنه لا اتفاق بينه وبينهم أصلاً ولا اتفاق بين فريقيهم مع كون الكل من بني إسرائيل ليريحه صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم فقال تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا } {[5481]}بناه للمجهول تنبيهاً على هوانهم{[5482]} { الكتاب } أي من اليهود والنصارى { بكل آية } أي من الآيات المسموعة مرغبة ومرهبة ومن الآيات المرئية مغرّبة ومقربة { ما تبعوا قبلتك } أي هذه التي حولت إليها وكنت الحقيق بها لكونها قياماً للناس كما أنت رسول إلى جميع الناس ، {[5483]}لأن إعراضهم ليس عن شبهة إذا زالت زال بل عن عناد{[5484]} . ثم أومأ له إلى أنهم ينصبون له الحبائل ليعود ولو ساعة من نهار إلى قبلتهم ليقدحوا بذلك فيه فقال : { وما أنت بتابع قبلتهم } ثم أشار إلى عيبهم باختلافهم وتفرقهم مع نهيهم عنه فقال : { وما بعضهم } {[5485]}أي أهل الكتاب{[5486]} { بتابع قبلة بعض } مع تقاربهم في النسب ، وذلك حثاً للعرب على الثبات على مباعدتهم والحذر من مخادعتهم .

ولما كان دينهم قد نسخ أعلم سبحانه بأن ثباتهم على قبلتهم مع ذلك{[5487]} مجرد هوى{[5488]} فقال{[5489]} منفراً{[5490]} للأمة عنهم ومحذراً لهم منهم بخطاب الرأس ليكون ذلك أدعى لقبول الاتباع { ولئن{[5491]} اتبعت أهواءهم } . ولما كان هذا السياق لأمر القبلة فقط قال{[5492]} : { من بعد ما جاءك من العلم } قال الحرالي : فأبهمه ولم يكن نحو الأول الذي قال فيه " بعد الذي " لظهور ما ذكر في الأول وخفاء ما وقعت{[5493]} إليه الإشارة في هذا وجاءت فيه " من " التي هي لابتداء من أولية{[5494]} لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول ، لأن ذلك كان في أمر{[5495]} الملة التي مأخذها العقل ، وهذه{[5496]} في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب ، قال الحرالي : قال تعالى : { إنك إذاً لمن الظالمين } على حد ما ذكر من أنه من لمح لمحاً من وصف كان من الموصوف به بألطف لطف ووصف كل رتبة بحسبها ، فما يرفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم من باب إظهار رغبته وحرصه على هداية الخلق الذي جبل على الرحمة فيه وطلب المسامحة في التقاصر عنه نظراً منه إلى حق الله تعالى ومضمون وصية الله تعالى له حين{[5497]} أوصاه بغير ترجمان ولا واسطة أن يصفح عمن ظلمه ويصل من قطعه ، فكان صلى الله عليه وسلم يطلب{[5498]} وصل المنقطع عنه حتى يعلن{[5499]} عليه بالإكراه في ترك ذلك وودعه فيجيبه حكماً وإن كان معه علماً ، ومنه قوله : " اللهم اغفر{[5500]} لقومي فإنهم لا يعلمون "

ففي طيّ كل خطاب له يظهر الله عز وجل فيه إكراهه على أخذ حكم الحق وإمضاء العدل أعظم مدحة له والتزام لوصيته إياه ، فهو ممدوح بما هو مخاطب بخطاب الإكراه على إمضاء العدل والاختصار في أمر رحمته للعالمين ، فرفعه الله أن يكون ممن يضع رحمة في موضع استحقاق وضع النقمة ، فذلك{[5501]} الذي{[5502]} يجمع معناه بين متقابل الظالمين فيمن يضع النقمة موضع الرحمة فيكون أدنى الظلم ، أو من يضع الرحمة في موضع النقمة فيكون منه بتغيير الوضع بوضع الفضل موضع العدل ؛ وعلى{[5503]} ذلك جميع ما ورد في القرآن من نحو قوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك } أي في إمضاء العدل{ فلا تكونن من الممترين{[5504]} }[ يونس : 94 ] في طلب الفضل لأهل العدل فإن الله يمضي عدله كما يفيض فضله ، وكذلك قوله :{ عبس وتولى أن جاءه الأعمى{[5505]} }[ عبس : 1-2 ] فيه {[5506]}إظهار لمدحته بحرصه{[5507]} على تألف الأبعدين ووصل القاطعين حتى ينصرف عنهم بالحكم{[5508]} وإشادة{[5509]} الإكراه عليه في ذلك ، فلا ينصرف عن حكم الوصية إلى حكم الكتاب بالحق إلا عن إشادة{[5510]} بإكراهه عليه ، فهو محمود بما هو منهي عنه ، لأن خطابه أبداً في ذلك في القرآن فيما بين الفضل والعدل ، وخطاب سائر الخلق جار فيما بين العدل والجور ، فبين الخطابين ما بين درج العلو ، ودرك السفل في مقتضى الخطابين المتشابهين في القول المتباينين في العلم - انتهى . وسيأتي في قوله تعالى :{ عفا الله عنك لم أذنت لهم }[ التوبة : 43 ] في سورة التوبة{[5511]} ما يوضحه .


[5478]:ليس في م
[5479]:في م: يلوح
[5480]:في م و ظ ومد: الآخر
[5481]:ليست في ظ
[5482]:ليست في ظ
[5483]:ليست في ظ
[5484]:ليست في ظ
[5485]:ليست في ظ
[5486]:ليست في ظ
[5487]:ليس في م
[5488]:العبارة من هنا إلى "الاتباع" ليست في ظ
[5489]:زيد من م ومد
[5490]:من مد، وفي الأصل: منفي، وفي م: منفردا –كذا مصحفا.
[5491]:وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط، ويقول الرجل لامرأته: إن صعدت إلى السماء فأنت طالق، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم أنهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} قال {ومن يقل منهم أني إلاه من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل، ويصير معنى هذه الجملة التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ويصير معنى هذه الجملة التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ويصير المعنى: لا يعد ظالما ولا تكونه لأنك لا تتبع أهواءهم، وكذلك لا يحبط عملك لأن إشراكك ممتنع، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم، لأنه لا يدعي أنه إلاه، وقالوا: ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه فهو محمول على إرادة أمته ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر والتفخيم لشأنه حتى يحصل التباعد منه – البحر المحيط 1/432
[5492]:في ظ: قاله
[5493]:في م: وقف
[5494]:في م: أوليه
[5495]:زيد من ومد
[5496]:في م: هذا
[5497]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: حتى
[5498]:ليس في م
[5499]:في الأصل: يعلى، والتصحيح من بقية الأصول
[5500]:زيد من م و ظ ومد، وفي رواية اهد قومي
[5501]:في ظ: بذلك
[5502]:ليس في م
[5503]:ليس في ظ. وفي البحر المحيط 1/ 433: قال الزمخشري: قوله {ولئن اتبعت أهواءهم} بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله {وما أنت بتابع قبلتهم} كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر إنك إذا لمن المرتكبين الظلم الفاحش، وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى وإلهاب للثبات على الحق
[5504]:سورة 10 آية 94
[5505]:سورة 80 آية 1 و2
[5506]:في م:إظهار المدحه بحرصه
[5507]:في م: إظهار المدحه بحرصه
[5508]:في م: الحكم
[5509]:في م: إشارة
[5510]:في م: إليه
[5511]:سورة 9 آية 43