نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (20)

ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده ، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل : هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا ، وبدأ برزق الروح لشرفه : { من كان } أي من شريف أو دنيء { يريد } ولما كان مدار مقصد السورة على الدين ، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة ، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب ، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله ، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال : { حرث الآخرة } أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد . ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله ، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة ، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه : { نزد له } أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها { في حرثه } بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه ، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة ، وطوى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر { ومن كان } أي من قوي أو ضعيف { يريد حرث الدنيا } أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة { نؤته منها } ما قسمناه له ، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه ، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد ، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله { وما } أي والحال أن طالب الدنيا ما { له في الآخرة من نصيب * } أصلاً ، روى أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال : صحيح الإسناد - والبيهقي ، وذلك لأن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها ، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله ، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله ، قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف : مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا ، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا ، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك ، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال { ويريدون وجهه } طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس - انتهى ، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار ، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره .