{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ( 61 ) } .
أو ما ملكتم مفاتحه : ما يكون في تصرفكم وملككم وجمهور المفسرين على أن ذلك يعني بيوت المماليك ومساكنهم ، وقيل أيضا : إنهم وكلاء أصحاب المزارع والضياع والبساتين في مزارعهم وضياعهم وبساتينهم .
هذه الآية ترفع الحرج والاستشعار بالضيق عن الأعمى والأعرج والمريض ، وعن المرء في أن يأكل من بيته أو بيت أبيه أو بيت أمه أو أخيه أو أخته أو عمه أو عمته أو خاله أو خالته أو صديقه أو مملوكه أو بيوت من هم تحت تصرفه من خدم وعمال في بساتينه وضياعه ومعامله . وترفع الحرج عن الناس في أن يأكلوا كما يريدون متفرقين أو مجتمعين ، وتحثهم على تبادل السلام والدعاء لبعضهم بالحياة الطيبة المباركة ، وتنبه المخاطبين الذين هم المسلمون بأن الله يبين آياته لهم ، لعلهم يعقلون ما فيها من الحكمة والصواب .
{ ليس على الأعمى حرج . . . }الخ .
روى البغوي عن ابن عباس قال ( كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته ، فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت الآية ) كما روي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الحارث ابن عمر خرج غازيا مع رسول الله ، وخلف مالك ابن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك . فنزلت الآية بالسماح . وروى المفسر نفسه عن قتادة ومجاهد أنها نزلت في بني ليث ابن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل ( أي المملوءة باللبن ) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أيس ولم يجد أكل .
وإلى هذه الروايات روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في مدى الفترة الأولى من الآية نوع خاص . منها أن الأصحاء كانوا يتعززون أو يتقززون من الأكل مع المرضى والعميان والعرج . ومنها أن هؤلاء كانوا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء تفاديا من التعزز والتقزز . ومنها أن الأصحاء حينما كانوا يخرجون إلى الجهاد يتركون مفاتيح بيوتهم مع هؤلاء الذي يتخلفون عادة عن الجهاد ويبيحون لهم الأكل مما في البيوت ولكنهم كانوا يتحرجون من ذلك فأنزل الله الآية يرفع الحرج .
والروايات لا تتسق تماما مع مفهوم ومدى الآية كلها ، وإن كان بعض الأقوال تتسق مع بعض فقراتها .
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا . وهي بسبيل تعليم آداب السلوك مثلها . ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين وقعوا في حرج ما بشؤون متصلة بما احتوته الآية فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث السابقة التي قبلها ؛ لأنها من موضوعها كما أن من المحتمل أن تكون نزلت عقبها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي . أو تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي .
ولقد انطوى في الآية مبدأ قرآني جليل ، وهو رفع الحرج عن المسلمين في هذه الأمور وأمثالها ، وترك التصرف فيها إليهم وقعا لما تمليه الظروف وتطيب به النفوس بدون تقيد بأشكال وصور معينة مع التنبيه على حسن المعاشرة وتبادل السلام والتمنيات الطيبة ؛ لما في ذلك من توطيد المودة والألفة بينهم ، ومع التنبيه كذلك على الرفق بالضعفاء والفقراء وأصحاب العاهات والأعذار وتطييب نفوسهم وتطييب النفوس إزاءهم ، وكل هذا متسق مع التشريع القرآني العام .
والخطاب في الآية مطلق ، وليس فيه ما يفيد تخصيص الرجال به بحيث يسوغ قول : إن ما احتوته من أدب وتأديب وتنبيه موجه إلى الجنسين معا .
واستتباعا لذلك يسوغ القول : إنه ليس من حرج في أن يتشارك الرجال والنساء معا في الأكل من مائدة واحدة سواء أكانوا أقارب ومحارم وتابعين أو أصدقاء أباعد إذا ما لزمت المرأة الاحتشام في اللباس على النحو الذي شرحناه قبل .
وهناك أحاديث نبوية فيها توضيح وتساوق مع الآية . من ذلك حديث رواه أبو داود جاء فيه ( قال جماعة : يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال : فلعلكم تفترقون . قالوا : نعم . قال : فاجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه{[1552]} وحديث رواه ابن ماجه عن عمر ابن الخطاب ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة ) {[1553]} حيث ينطوي في الحديثين تشجيع على التآلف والتجمع في مناسبات الطعام لما في ذلك من توثيق المودة والمحبة ، وأول ما ينصرف هذا التشجيع النبوي إلى تجمع الأسرة الواحدة على الطعام . وهناك أحاديث نبوية تفيد أن النساء كن يحضرن الطعام مع الرجال . منها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة قال ( كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله ، وإنا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع لتضع يدها في الطعام ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدها ، ثم جاء أعرابي كأنه يدفع فأخذ بيده ، فقال : إن الشيطان يستحل الطعام إلا بذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده : إن يده في يدي مع يدها ) وفي الحديث ما يفيد أن الإناث كن يحضرن الطعام مع الرجال ، مع إفادته وجوب تسمية الله قبل الأكل . وقد أخذ النبي بيد الجارية والأعرابي ؛ لأنهما لم يسميا أي لم يذكرا اسم الله قبل الأكل .
وروى الشيخان عن أبي سعيد الساعدي ( إنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه ، وكانت امرأته يومئذ خادمتهم وهي العروس ، فلما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم سقته نقيع تمر كانت نقعته من الليل ) والحديث يفيد أن العروس كانت شاهدة الوليمة وخادمتها .
وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس جاء فيه ( أن جارا فارسيا للنبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما ولم يدع أم المؤمنين عائشة معه فلم يلب ، ثم دعاه مرة ثانية فسأله أن يدعوها معه فدعاها فذهبا إلى بيت الجار وأكلا طعامهما معه ) .
وجملة { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة } تنطوي على تأديب رفيع حيث توجب على الداخلين على غيرهم أن يبادروهم بالتحية والسلام سواء أكانوا أهلهم أم غرباء عنهم .
هذا ، وقد يكون ذكر بيوت الآباء والأمهات والأخوات والإخوان والأعمام والعمات والأخوال والخالات متصلا بما كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كانوا يتفرقون في المساكن ، غير أنه لا يخلو من تلقين مستمر المدى بهذا أيضا ؛ حيث يكون الولد المتزوج في بيت ووالده في بيت وإن كانت أمه أرملة في بيت وإن كانت أخواته عوانس أو أرامل في بيت . . . الخ وحيث يكون في ذلك الراحة والهدوء والبعد عن أسباب الخلاف والقيل والقال التي كثيرا ما تؤدي إلى تصدع بنيان الأسرة وتعكير صفوها . والله تعالى أعلم .
تعليق على مدى كلمة ( صديقكم } في الآية .
فرقت الآية فذكرت الصديق لحده ، وذوي الأرحام والمماليك لحده . والمتبادر أن هذا طبيعي ، فإن علاقة ذوي الأرحام ببعضهم وعلاقة مالكي المماليك بمماليكهم أشد من علاقة صداقة ، فهي علاقة اقتصادية واجتماعية وإنسانية لا يمكن أن يستغنى عنها في حين أن كثيرا من الناس تكون علاقتهم ببعضهم عادية أو عابرة لا ترقى إلى درجة لاحمة .
والمتبادر أن كلمة { صديقكم } تشمل جميع الناس ، بل ولا أرى مانعا من القول إنها تشمل غير المسلمين أيضا . فكلمة صديق ) هي مضادة ، أو ضد كلمة ( عدو ) وكلمة عدو تطلق في الإسلام على من يعتدى على الإسلام والمسلمين بأسلوب ما ، والمتبادر الواقع أن جمهورا عظيما من غير المسلمين ممن يعيشون في بلاد الإسلام أو بعيدا عنها لا يعتدون على الإسلام والمسلمين واقعيا ، ومنهم من يكون مسالما وموادا . وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك ، وفيها توقع بانقلاب العداء بين المسلمين وغيرهم إلى مودة ، وفيها أمر للمسلمين بالبر والإقساط والتعايش مع المسلمين وغيرهم الكافين يدهم ولسانهم عن المسلمين انظر آية سورة النساء ( 89 ) وآيتي سورة الممتحنة ( 6 7 } .
وفي صدد الصداقات بين المسلمين فيما بينهم نقول : إن القرآن وصف المسلمين بأنهم إخوة ، وهذا الوصف قد يكون معنويا ، ولكنه يفيد أن اللحمة بين المسلمين من غير ذوي الأرحام قوية إلى درجة تصل إلى شيء من قوة الأرحام والمسلمون يتشاركون في عقيدة الحلال والحرام في كل أنواع الطعام . ووصف الأخوة يجعل المسلمين أصدقاء بالتبعية ، ولا يفرض أن يكون عداء بينهم بالتبعية يقال إن كل مسلم يستطيع أن يعتبر أن كل مسلم صديقا له أيضا ويتناول الطعام في بيته مجتمعا أو منفردا ، وأما غير المسلم فقد قلنا إن احتمال الصداقات بين المسلمين وغير المسلمين واردة وقائمة ومحرض عليها . فيقال بالتبعية : إن للأصدقاء من المسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتناولوا طعاما في بيوت بعضهم أيضا .
وهنا محل للاستدراك فقد حرم الله ورسوله على المسلمين محرمات معينة في المأكولات والمشروبات ، وأباح لهم ما عداها . فيقال : إنه لا حرج على المسلم أن يأكل في بيت غير المسلم إذا قدم له هذا مأكولات غير محرمة عليه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية . وهناك مأكولات لا تحصى مباحة مثل الحبوبات على أصنافها والخضروات والفواكه ومنتجات الحيوان كاللبن والحليب والزبدة والسمن وحيوانات الأنهار والبحار فيستطيع المسلم أن يأكل ما يقدمه غير المسلم من ذلك وما يطبخه بدون لحم مشتبه في طريقة ذبحه التي حرمتها الآيات والأحاديث ، وإذا قدم غير المسلم لحما مذبوحا بيد المسلمين فليس عليه مانع من أكله إذا تيقن من ذلك ، وننبه على أن في سورة المائدة هذه الآية { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم آتيتموهن أجورهن }
ويتبادر لنا والله اعلم هذه الآية ليست على سبيل الحصر بدليل أو قرينة سبحانه وتعالى حرم النساء المشركات على المؤمنين بنص قرآني . ولم يحرم طعام المشركين على المسلمين بنص قرآني ، وإن كان لم يحله بحيث يمكن أن يقال : إن غير المسلمين الكتابيين إذا قدموا لأصدقائهم المسلمين مأكولات مباحة وغير محرمة عليهم في القرآن والأحاديث ساغ لهم أن يأكلوها أما طعام المسلمين للمشركين فلم نر أي تحريم لذلك . ولقد روى ابن هشام أن المسلمين أسروا أمير اليمامة ثمامة ابن أثال وكان مشركا فنصب به رسول الله صلى الله عليه وسام خيمة في مسجده وكان يرسل إليه طعاما من بيوته والله تعالى أعلم .
وكلمة أخيرة في صدد ما يقدمه الكتابيون من طعام للمسلمين فقد قال جمهور من المفسرين والفقهاء : إن نص الآية مطلق وليس من ضرورة بتردد المسلم وتكلفه وسؤاله ، فالله تعالى أحل له طعامهم ، ويعنون بذلك اللحوم البرية فليأكلوا على الإباحة ، وهذا سبيل . ومنهم من قال هذا مع زيادة إذا تيقن المسلم فيما يقدمه الكتابيون من طعام محرمات أساسية على المسلمين في القرآن والأحاديث فلا يأكله ، وهذا سبيل أيضا . والله تعالى أعلم . انظر تفصيلات أخرى في تفسير الآيات ( 4 6 ) من سورة المائدة في الجزء التالي .