الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا} (14)

قوله تعالى : { اقْرَأْ } : على إضمارِ القولِ ، أي : يُقال له : اقرأْ ، وهذا القولُ : إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله .

قوله/ { كَفَى بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ ، المشهورُ عند المُعْرِبين : أنَّ " كفى " فعلٌ ماضٍ ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء ، وهي فيه مزيدةٌ ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع ، كقوله :

ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه *** كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا

وقولِ الآخر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا

وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه ، وإن كان مجروراً كقوله : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 6 ] و { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ }

[ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ ، و " كفى " على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ ، أي : اكْتَفِ ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ " كَفَى " علاماتِ الأفعالِ . الثالث : أنَّ فاعلَ " كَفَى " ضميرٌ يعودُ على الاكتفاء ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى . و " اليومَ " نصبٌ ب " كفى " .

قوله : " حَسِيْبا " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه تمييزٌ . قال الزمخشري : " وهو بمعنى حاسِب ، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها ، وصَرِيْم بمعنى صارِم ، ذكرهما سيبويه ، و " على " متعلقةٌ به مِنْ قولك : حَسِب عيله كذا ، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد ، فعُدِّي ب " على " لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه . فإن قلت : لِمَ ذَكَرَ " حسيباً " ؟ قلت : لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين ، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل : كفى بنفسِك رجلاً حسيباً ، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ ، كما يقال : ثلاثة أنفس " . قلت : ومنه قولُ الشاعر :

ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ *** لقد جارَ الزمانُ على عيالي

والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، وذُكِرَ لِما تقدَّم . وقيل : حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخالِط ومُجالس .