الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

قوله تعالى : { مَن يَشْرِي } : في " مَنْ " الوجهانِ المتقدِّمان في " مَنْ " الأولى ، ومعنى يَشْري : يَبيع ، قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] ، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة ، وقال :

وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني *** من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ

فالمعنى : يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه .

قوله : { ابْتِغَآءَ } منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله . والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ . والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين . و " مرضاة " مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة ، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو : مَغْزَى ومَرْمَى

ووقَفَ حمزة عليها بالتاء ، وذلك لوجهين : أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي : وأنشدوا :

دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ *** بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ

وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه . والثاني : أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة ، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك ، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها . وقد أمالَ الكسائي وورش " مَرْضات " .

وفي قولِهِ : { بِالْعِبَادِ } خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ ، إذ كان الأصلُ " رؤوف به " أو " بهم " ، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ " العباد " يُؤْذِنُ بالتشريفِ ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك .