الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (203)

قوله تعالى : { مَّعْدُودَاتٍ } : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ . وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب ، أما السؤالُ فقال : إنْ قيل " الأيام " واحدُها " يوم " و " المعدودات " واحدتُها " معدودةٌ " ، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر ، وإنما الوجهُ أن يقالَ : " أيامٌ معدودةٌ " فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ ، فالجوابُ أنه أَجْرى " معدودات " على لفظ أيام ، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً ، والأصلُ معدودة ، كما قال : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً }[ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الأيام تَشْتمل على الساعات ، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام ، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها لكانَ جواباً سديداً . ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنَها يُجاب بها عن كم ، [ وكم ] إنما يجابُ عنها بالعدد ، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودات فكانت جواباً من هذا الوجهِ " وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ ، وقولُه " مفرد معدودات معدودة " بالتأنيث ممنوعٌ بل مفردُهَا " معدود " بالتذكير ، ولاَ يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء ، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لاَ يسْتْدعي تأنيثَ المفرد ، ألا ترى إلى قولِهم : حَمَّامات وسِجِلاَّت وسُرادِقات .

قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } " مَنْ " يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ شرطيةً ، ف " تَعَجَّل " في محلِّ جزمٍ ، والفاءُ في قولِه : " فلا " جوابُ الشرط ، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب . والثاني : أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً ، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه . والفاءُ في " فلا " زائدةُ في الخبرِ ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ . و " في يومين " متعلق بتَعجَّل ، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه ، تقولُ : " سِرْت يومين " لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجهُ المجاز : إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في أحدهما واقعاً فيها كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن :22 ] ، والناسي أحدُهما ، وكذلك المُخْرَجُ من أحدِهما ، وإمَّا من حيث حَذْفُ مضافٍ أي : في تمامِ يومين أو كمالِهما .

و " تعجَّل " يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ ، كتكبَّر واستكبر ، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر ، أو بمعنى المجرد ، وهو عَجِل ، قال الزمخشري : " والمطاوعة أوفق ، لقوله : " ومَنْ تأخَّر " ، كما هي كذلك في قوله :

قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه *** وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ

لأجلِ قولِه " المتأني " . وتعجَّل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين ، ومتعلَّقُ التعجيلِ محذوفٌ ، فيجوزُ أن تقدِّرَه مفعولاً صريحاً أي : من تعجَّل النَّفْر ، وأن تقدِّرَه مجروراً أي : بالنفر ، حَسَبَ استعمالِه لازماً ومتعدياً .

وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ : الطباقُ ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في " تعجَّل وتأخر " فهو كقوله : { هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] و{ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 43 ] وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جَعَل ضدَّ " تَعَجَّل " : " تأخَّر " ، وإنما ضدُّ " تعجَّل " : " تأنَّى " وضدُّ تأخَّر : تقدَّم ، ولكنه في " تعجَّل " عَبَّر بالملزوم عن اللازم ، وفي " تأخَّر " باللازم عن الملزومِ . وفيها من علم البيان : المقابلةُ اللفظية ، وذلك أن المتأخِّرَ بالنَّفْر آتٍ بزيادةٍ في العبادة فله زيادةٌ في الأجر على المتعجِّل فقال في حقه أيضاً : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ليقابلَ قولَه أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقولِهِ : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] و { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .

وقرأ الجمهور { فَلا إِثْمَ } بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله : " فلا اثمَ " بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا ، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألفُ لا وثاء " أثم " ، فَحُذِفت ألفُ " لا " لالتقاءِ الساكنين . وقال أبو البقاء :ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسمَ ب " لا " حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف يعني أنه لمَّا رُكِّبت " لا " مع اسمها صارا كالشيء الواحد ، والهمزةُ شبيهةُ الألف ، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك ، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك .

قوله : { لِمَنِ اتَّقَى } / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل : يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي : انتفاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى . وقيل : متعلِّقٌ بقولِه : " واذكروا " أي : الذكرُ لمَنِ اتقى . وقيل : متعلِّق بقولِه : " غفورٌ رحيم " أي : المغفرة لمن اتقى . وقيل : التقديرُ : السلامة لمن اتقى . وقيل : التقديرُ : ذلك التخييرُ وَنفْيُ الإِثم عن المستعجلِ والمتأخرِ لأجلِ الحاجِّ المتَّقي ، لئلا يتخالجَ في قلبِه شيءٌ منهما فيحسَبَ أنَّ أحدَهما يُرهِقُ صاحبَه إثماً في الإِقدامِ عليه ، لأنَّ ذا التقوى حَذِرٌ متحرزٌ من كلِّ ما يُريبه . وقيل : التقديرُ : ذلكَ الذي مَرَّ ذكرهُ من أحكام الحج وغيرهِ لِمَنِ اتقى ، لأنه هو المنتفعُ به دون مَنْ سِواه ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [ الروم : 38 ] . قال هذين التقديرين الزمخشري . وقال أبو البقاء : " تقديرُه : جوازُ التعجيل والتأخير لمن اتقى " . وكلُّها أقوالٌ متقاربة . ويجوز أن يكونَ " لمَن اتقى " في محلِّ نصب على أن اللامَ لامُ التعليل ، ويتعلَّقُ بقولِه { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : انتقى الإِثمُ لأجلٍ المتَّقي ، ومفعولُ : " اتَّقى " محذوفٌ ، أي : اتَّقى اللهَ ، وقد جاءَ مصرَّحاً به في مصحفِ عبدِ الله وقيل : اتقى الصيدَ .