الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

قولُه تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ } : " هل " لفظُهُ استفهامٌ والمرادُ به النفيُ كقوله :

وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ

أي : ما ينظُرون ، وما أنا ، ولذلك وقَعَ بعدها " إلاَّ " كما تَقَعُ بعد " ما " .

و " يَنْظُرون " هنا بمعنى يَنْتَظِرُون ، وهو مُعَدَّىً بنفسِه ، قال امرؤ القيس :

فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً *** من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ

وليس المرادُ هنا بالنظرِ تَرَدُّدَ العينِ ، لأنَّ المعنى ليس عليه . واستدّلَّ بعضُهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بإلى ، ويُضافُ إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسِه ، وليسَ مضافاً إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجهِ قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }

[ القيامة : 23 ] فيكونُ بمعنى الانتظار . وهذا ليس بشيءٍ . أمَّا قولُه : " إنَّ الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى فمُسَلَّم ، قوله : " وهو هنا متعدٍّ بنفسه " ممنوعٌ ، إذ يُحتمل أن يكونَ حرفُ الجر وهو " إلى " محذوفاً ، لأنه يَطَّرِدُ حَذْفُه مع " أَنْ " ، إذا لم يكن لَبْسٌ ، وأمَّا قولُه : " يُضافُ إلى الوجهِ " فممنوعٌ أيضاً ، إذ قد جاء مضافاً للذاتِ . قال تعالى : { أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }

[ الأعراف : 143 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ } [ الغاشية : 17 ] . والضميرُ في " ينظرون " عائدٌ على المخاطبين بقولِه : " زَلَلْتُم " فهو التفاتٌ .

قولُه : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } هذا مفعولُ " ينظرون " وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي : ما ينظرون إلا إتيان الله .

قوله : { فِي ظُلَلٍ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّق بيأتِيَهم ، والمعنى : يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك ، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام ؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، وفي صاحبها وجهان ، أحدُهما : هو مفعولُ يأتيهم ، أي : في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ . والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم ، أي : أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل . الثالث : أن تكونَ " في " بمعنى الباء ، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ ، أي : إلاَّ أَنْ يأتيهم بظُلَل . ومِنْ مجيءِ " في " بمعنى الباءِ قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ

لأنَّ " خبيرين " إنَّما يتعدَّى بالباءِ كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ

الرابع : أن يكونَ حالاً من " الملائكة " مقدَّماً عليها ، والأصل : إلاَّ أَنْ يأتيَهم اللهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ ، ويؤيَّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا أيضاً يَقِلُّ المجازُ ، فإنَّه والحالةُ هذه لم يُسْنَدْ إلى اللهِ تعالى إلا الإِتيانُ فقط بالمجازِ المتقدِّم .

وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ : في ظلالٍ ، وفيها وجهان ، أَحدُهما : أَنَّها جمع ظِلّ نحو : صِلّ وصِلال .

والثاني : أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال ، وخُلَّة وخِلال ، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة .

قوله : { مِّنَ الْغَمَامِ } فيه وجهانِ ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ ل " ظُلَل " التقدير : ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام . و " مِنْ " على هذا للتبعيضِ .

والثاني : أنها متعلقةٌ ب " يأتيهم " ، وهي على هذا لابتداءِ الغاية ، / أي : من ناحيةِ الغمام .

والجمهور : " الملائكةُ " رفعاً عطفاً على اسم " الله " . وقرأ الحسن وأبو جعفر : " والملائكةِ " جراً وفيه وجهان ، أحدُهما : الجر عطفاً على " ظُلَلٍ " ، أي : إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة ؛ والثاني : الجر عطفاً على " الغمام " أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه .

قوله : { وَقُضِيَ الأُمُورُ } الجمهور على " قُضِيَ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على " يَأْتِيهم " وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار ، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل ، والأصل ، ويُقْضى الأمر ، وإنما جِيء به كذلك لأنه محققٌ كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] . والثاني : أن يكونَ جملةً مستأنفةً برأسِها ، أَخْبر الله تعالى بأنه قد فَرَغَ من أمرهم ، فهو من عطفِ الجملِ وليس داخلاً في حَيِّز الانتظار ، وقرأ معاذ ابن جبل " وقضاء الأمر " قال الزمخشري : " على المصدرِ المرفوع عطفاً على الملائكة " . وقال غيرُه : بالمدِّ والخفض عطفاً على " الملائكة " قيل : " وتكون على هذا " في " بمعنى الباء " أي : بُظللٍ وبالملائكةِ وبقضاء الأمر ، فيكونُ عن معاذ قراءتان في الملائكة : الرفعُ والخفضُ ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : " وقُضي الأمر " .

قوله : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره . وقرأ الجمهور : " تُرْجَعُ " بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث ، إلاَّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائِه للفاعل ، والباقون ببنائِه للمفعول ، و " رجع " يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى . وقال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ } [ التوبة : 83 ] فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سُمِع في المتعدي " أرجع " رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة ، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها . وقرأ خارجة عن نافع :

" يُرْجَعُ " بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي ، والفاعلُ المحذوفُ في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول : إمَّا اللهُ تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمَّا ذوو الأمور ؛ لأنه لَمَّا كانت ذواتُهم وأحوالُهم شاهدةً عليهم بأنهم مَرْبوبون مَجْزِيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورَهم إلى خالقها .