الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (206)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها ، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على " يُعْجِبُك " وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } ما الذي قام مقامَ الفاعلِ ؟ وخلافُ الناسِ فيه .

قوله : " بالإِثمِ " في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال : " أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي : حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه " قال الشيخ : " وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، { [ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ ] بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : " صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ " أي : جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ . الثاني : أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله :

أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ *** فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ

والثالث : أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفيها حينئذٍ وجهانِ ، أحدُهما : أن تكونَ حالاً من " العزَّةُ " أي : ملتبسةً بالإِثمِ . والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي : أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ .

وفي قوله " العزَّةُ بالإِثم " التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً . فَمِنْ مجيئها محمودة : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل : " بالإِثم " تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها .

قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } " حَسْبُهُ " مبتدأ و " جهنَّمُ " خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ ، وقيل : " جهنَّمُ " فاعلٌ ب " حَسْب " ، ثم اختلف القائلُ بذلك في " حَسْب " فقيل : هو بمعنى اسم الفاعل ، أي الكافي ، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل ، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر ، وقَوِيَ " حَسْب " لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها ، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء . وقيل : بل " حَسْب " اسمُ فعلٍ ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ : فقيل : اسمُ [ فعلٍ ] ماضٍ ، أي : كفاهم ، وقيل فعلُ أمرٍ أي : لِيَكْفِهم ، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ . وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن " حَسْب " هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر ؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ ، تقولُ ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة ، وخبراً فلا يُجَرُّ بها ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء .

و " جهنَّمُ " اخَتَلَفَ الناسُ فيها ، فقيل : هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ ، وأصلُها كَهْنَام ، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ . وقيل : بل هي عربيةُ الأصلِ ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها : هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها " فَعَنَّل " مشتقةٌ من " رَكِيَّةٌ جَهْنام " أي : بعيدةُ القَعْر ، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ ، وقيل : بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس ، قال : لأن " فعنَّلاً " مفقودٌ في كلامِهم ، وجعل " زَوْنَكاً " فَعَلَّلاً أيضاً ، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ ، وجاءَتْ منه ألفاظ ، قالوا : " ضَغَنَّط " من الضَّغاطة وهي الضخامة ، و " سَفَنَّج " و " هَجَنَّف " للظَّلِيم ، والزَّوْنَك : القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي : يَتَبَخْتَرُ ، قال حسان :

أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى *** في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ

وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في " زَوْنَكَ " وعلى هذا فامتناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ .

" ولَبِئْسَ المِهادُ " المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ " المِهاد " وقعَ فاصلةً ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على " بئس " وخلافِ الناسِ فيها . وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً .

والمِهَادُ فيه قولان ، أحدُهماٌٌٌ : أنه جَمْعُ " مَهْد " وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ :

وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ *** تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ

أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع .