الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (1)

قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } : العامَّةُ على " أَفْلَحَ " مفتوحَ الهمزةِ والحاءِ فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ . وورشٌ على قاعدتِه مِنْ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها وحَذْفِها . وعن حمزةَ في الوقف خلفٌ : فرُوِيَ عنه كورشٍ ، وكالجماعة . وقال أبو البقاء : " مَنْ ألقى حركةَ الهمزةِ على الدالِ وحَذَفَها فَعِلَّتُه : أنَّ الهمزةَ بعد حَذْفِ حركتِها صُيِّرَتْ ألفاً ، ثم حُذِفَتْ لسكونِها وسكونِ الدالِ قبلها في الأصل . ولا يُعْتَدُّ بحركةِ الدال لأنها عارضةٌ " . وفي كلامِه نظرٌ من وجهين ، أحدهما : أنَّ اللغةَ الفصيحةَ في النقلِ حَذْفُ الهمزةِ من الأصلِ فيقولون : المَرَة والكَمَة في : المَرْأَة والكَمْأَة . واللغةُ الضعيفةُ فيه إبقاؤُها وتَدْييرُها بحركةِ ما قبلَها فيقولون : المَراة والكَماة بمَدَّةٍ بدل الهمزةِ كراس وفاس فيمَنْ خفَّفَهما . فقولُه : " صُيِّرَتْ ألفاً " ارتكابٌ لأضعفِ اللغتين .

الثاني : أنه وإنْ سُلِّمَ أنَّها صُيِّرَتْ ألفاً فلا نُسَلِّم أنَّ حَذْفَها لسكونِها وسكونِ الدالِ في ألأصل ، بل حَذْفُها لساكنٍ محققٌ في اللفظِ وهو الفاء مِنْ " أفلح " ، ومتى وُجد سببٌ ظاهرٌ أُحيل الحُكْمُ عليه دونَ السبب المقدر .

وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد " أُفْلِحَ " مبنياً للمفعول أي : دَخَلوا في الفلاح . فيُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أفلح متعدِّياً . يقال : أَفْلحه أي : أصاره إلى الفلاح ، فيكون " أفلح " مستعملاً لازماً ومتعدِّياً . وقرأ طلحة أيضاً " أَفْلَحُ " بفتح الهمزة واللام وضمِّ الحاء . وتخريجُها على أنَّ الأصلَ " أَفْلحوا المؤمنون " بلحاقِ علامةِ جمعٍ قبل الفاعلِ كلغة " أكلوني البراغيث " فيجيءُ فيها ما قَدَّمْتَه في قول : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] قال عيسى : " سمعتُ طلحةَ يقرؤُها . فقلتُ له : أتلحنُ ؟ قال : نعم كما لحن أصحابي " يعني اتَّبَعْتُهم فيما قَرَأْتُ به . فإنْ لَحَنوا على سبيلِ فَرْضِ المُحالِ فِأنا لاحنٌ تَبَعاً لهم . وهذا يدلُّ على شدِّةِ اعتناءِ القدماءِ بالنَّقْلِ وضَبْطِه خلافاً لمن يُغَلِّطُ الرواةَ .

وقال ابن عطية : " وهي قراءةٌ مردودةٌ " . قلت : ولا أدري كيف يَرُدُّونها مع ثبوتِ مِثْلِها في القرآن بإجماع وهما الآيتان المتقدمتان ؟ وقال الزمخشري : " وعنه أي عن طلحةَ " أَفْلَحُ " بضمةٍ بغير واو ، اجتزاءً بها عنها كقوله :فلَوْ أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنَّ الواوَ لا تَثْبُتُ في مثلِ هذا دَرْجاً لئلاً يلتقي ساكنان ، فالحَذْفُ هنا لا بُدَّ منه فكيف يقول اجتزاءً عنها بها ؟ وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ فليس بمطابقٍ ؛ لأنَّ حَذْفَها من الآيةِ ضروريٌّ ومن البيتِ ضرورةٌ . وهذه الواوُ لا يظهر لفظُها في الدَّرْجِ ، بل يظهرُ في الوقفِ وفي الخَطِّ .

وقد اختلف النَّقَلَةُ لقراءةِ طلحة : هل يُثَبِتُ للواوِ صورةً ؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء ، وفي " اللوامح " : " وحُذِفَتْ الواوُ بعد الحاءِ لالتقائِهما في الدَّرج ، وكانت الكتابةُ عليها محمولةً على الوصلِ نحو :

{ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } [ الشورى : 24 ] . قلت : ومنه { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [ العلق : 18 ] ، { صَالِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 163 ] .

و " قد " هنا للتوقُّع . قال الزمخشري : " قد : نقيضَةُ " لَمَّا " ، هي تُثْبِتُ المتوقَّعَ و " لَمَّا " تَنْفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقِّعين لهذه البشارةِ ، وهي للإِخبار بثباتِ الفَلاحِ لهم فَخُوطبوا بما دَلَّ على ثباتِ ما تَوَقَّعوه " .